|
|||
|
|||
المناهج الدراسية - مناهج معهد تعليم اللغة العربية |
|||
المستوى الثالث |
|||
|
أبو أيوب الأنصاري |
يدفن تحت أسوار القسطنطينية |
|
هذا الصحابيُّ الجليلُ يُدْعَى خالدَ بنَ زيدِ بنِ كُلَيبٍ ، من بني النجَّار. |
أمَّا كُنْيَتُه فأبو أيوبَ، وأما نِسْبَتُهُ فإلى الأنصار. |
ومن مِنَّا مَعْشَرَ المسلمين لا يعْرفُ أبا أيوبَ الأنصاريَّ؟! |
فقد رَفَعَ اللّهُ في الخافِقَيْن (1) ذِكْرَه، وأعْلَى في الأنامِ (2) قدْرَه حينَ اخْتارَ بيتَه من دون بيوتِ المسلمين جميعاً لِينزلَ فيه الكريمُ لَمَّا حَلَّ في المدينَةِ مهاجراً، وحَسْبُه بذلك فَخْراً. |
ولِنُزولِ الرسولِ صلواتُ اللّهِ عليه في بيتِ أبى أيوبَ قِصَّةٌ يَحْلو تَرْدادُها ويلَذّ تكْرارُها. |
ذلك أنَّ النبيَّ عليه الصلاةُ والسَّلامُ حينَ بَلَغ المدينةَ تلَقتْه أفْئِدَةُ أهْلِها بأكْرَم ما يُتَلَقَّى به وافدٌ... |
وَتَطَلَّعَتْ إليه عيونُهم تَبُثُّه شوقَ الحبيبِ إلى حبيبه... |
وفتحوا له قلوبَهم ليحلَّ مِنْها في السُّوَيداءِ... |
وأشْرَعوا (3) له أبوابَ بيوتِهم لِيَنْزِلَ فيها أعزَّ مَنْزِل. |
لكنَّ الرسولَ صَلَواتُ اللّهِ عليه، قَضَى في قُبَاءَ (4) من ضواحِي المدينةِ أيَاماً أربعةً، بَنَى خِلالَها مَسْجِدَه الذي هو أولُ مَسْجِدٍ أسّس على التَّقْوى. |
ثم خَرَجَ منها راكِباً ناقَته، فَوقَفَ ساداتُ يثربَ في طريقها، كُل يريدُ أن يَظْفَرَ بِشَرَفِ نزولِ رسولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم في بيتِه... |
وكانوا يَعْتَرِضون الناقَةَ سَيِّداً إثْرَ سيِّدٍ ، ويقولون: |
أقم عندنا يا رسول اللّه في العَدَد والعُدَد والمَنَعِة (5)، فيقولُ لهم: |
دعوها فإنَّها مأمُورَة. |
وتظلُّ الناقَةُ تَمْضِى إلى غايتِها تَتْبَعُها العيونُ، وتَحُفُّ بها القلوب... |
فإذا جازَت منزِلاً حَزِنَ أهلُه وأصابَهُمُ اليأسُ، بينما يُشْرِقُ الأمَلُ في نفوسِ من يليهم. |
وما زالَتِ الناقةُ على حالها هذه، والناسُ يَمْضُون في إثْرِها، وهُمْ يتلهَّفون شَوْقاً لمعرفةِ السَّعِيدِ المحظوظِ حتَّى بلغتْ ساحَة خَلاءً أمامَ بيتِ أبى أيوب الأنْصاريِّ، وبَرَكَتْ فيها... |
لكِنَّ الرسولَ عليه الصلاةُ والسَّلامُ لم ينزِلْ عنها... |
فما لَبِثَتْ أن وَثَبَتْ وانْطَلَقَتْ تَمْشِى، والرسولُ مُرْخ لها زِمامَها، ثم ما لبِثَتْ أنْ عادَت أدْراجَها وبَرَكَتْ في مَبْرَكِها الأوَّلِ. |
عند ذلك غَمَرَتِ الفَرْحَةُ فؤادَ أبى أيوبَ الأنصاريِّ، وبادَرَ إلى رسولِ اللّهِ صلواتُ اللّهِ عليه يُرَحِّبُ به، وحَمَلَ مَتاعَه بَيْنَ يديه، وكأنَّما يَحْمِل كنوزَ الدنيا كلَّها ومضَى به إلى بيته. |
*** |
كان منزلُ أبي أيوبَ يتألَّفُ من طَبَقَةٍ فَوْقَها عُلِّيَّة، فأخْلَى العُلِّيةَ من مَتاعِه ومتاع أهلِه ليْنزِلَ فيها رسولَ اللّهِ... |
لكِنَّ النبيَّ عليه الصلاة والسلامُ آثرَ عليها الطبقةَ السُّفْلَى، فامتثلَ أبو أيوبَ لأمْرِه، وأنزلَهُ حيثُ أحَبَّ. |
ولما أقْبَلَ الليلُ، وأوَى الرسولُ صلواتُ اللّهِ عليه إلى فراشِه، صَعِدَ أبو أيوبَ وزوجُه إلى العُلِّيَّةِ وما إن أغلقا عليهما بابَهما حتَّى التفَت أبو أيوب إلى زوجتِه وقال: ويْحَكِ، ماذا صَنَعْنَا ؟!! |
أيكونُ رسولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم أسفلَ، ونحن أعْلَى منه؟!! |
أنمشي فوقَ رسولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم ؟! |
أنصيرُ بين النَّبِيِّ والوَحْي ؟! إنَّا إذَنْ لهَالِكون. |
وسُقِطَ (6) في أيدي الزوْجين وهُما لا يدْرِيان ما يفعلان. |
ولم تَسْكنْ نفساهما بَعْضَ السُّكونِ إلا حينَ انْحازا إلى جانبِ العُلِّيَّةِ الذي لا يَقَعُ فوقَ رسولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم ، والتَزَماه لا يَبْرَحانِه إلا ماشِيَيْن على الأطرَافِ مُتباعِدَين عن الوَسَطِ. |
فلما أصْبَحَ أبو أيوب؛ قال للنبيِّ عليه الصلاةُ والسَّلامُ: واللّهِ ما أغْمضَ لنا جفنٌ في هذه الليلةِ لا أنا ولا أمّ أيوبَ. |
فقال عليه الصلاةُ السَّلامُ: |
ومِمَ ذاكَ يا أبا أيوبَ؟! |
قال: ذكرتُ أني على ظَهرِ بيتٍ أنتَ تحتَه، وأني إذا تحَرَّكتُ تَنَاثَرَ عليك الْغُبَارُ فَآذاك، ثم إني غَدَوْتُ بينَك وبينَ الوَحي. |
فقال له الرسولُ عليه الصلاةُ والسلامُ: |
هوِّن عليك يا أبا أيوب، إنَّه أرْفَقُ بنا أنْ نكونَ في السُّفْلِ، لِكَثْرَةِ من يَغشانا (7) من النَّاسَ. |
قال أبو أيوبَ: |
فامتَثَلْتُ لأمْرِ رسولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم إلى أن كانَت ليلةٌ باردةٌ فانكَسَرَتْ لنا جَرَّةٌ وأريقَ ماؤها في العُلِّيَّة، فقمتُ إلى الماءِ أنا وأمُّ أيوبَ، وليسَ لدينا إلا قطيفَةٌ كُنَّا نَتَّخِذُها لِحَافاً، وجَعَلْنَا نُنشِّفُ بها الماءَ خَوْفاً مِنْ أنْ يَصِلَ إلى رسولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم . |
فلما كان الصباحُ غدوتُ على الرسولِ صلواتُ اللّهِ عليه، وقلتُ: |
بأبي أنتَ وأمِّي، إني أكْرَهُ أنْ أكونَ فوقَكَ، وأن تكونَ أسفَلَ مني، ثم قَصصْتُ عليه خَبَرَ الجرَّةِ، فاسْتَجَاب لي، وصَعِدَ إلى العُلِّيةِ، ونَزَلْتُ أنا وأمُّ أيوبَ إلى السُّفْلَ. |
*** |
أقام النبيُّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ في بيتِ أبى أيوبَ نَحْواً من سَبْعَةِ أشهرٍ ، حتَّى تَمَّ بناءُ مَسْجِدِهِ في الأرضِ الخَلاءِ التي بَرَكَتْ فيها الناقَةُ، فانْتَقَلَ إلى الحُجُراتِ التي أقيمَت حَوْلَ المسجدِ له ولأزْواجِه، فَغَدا جاراً لأبى أيوبَ، أكْرِمْ بهما مِنْ مُتَجاوِرَيْن. |
*** |
أحبَّ أبو أيوبَ رسولَ اللّهِ صلواتُْ اللّه عليه حبّاً ملكَ عليه قلبَه ولبَّه، وأحبَّ الرسولُ الكريمُ أبا أيوبَ حبّاً أزالَ الكُلفة فيما بينَه وبينَه، وجَعَلَه ينظرُ إلى بيتِ أبي أيوبَ كأنه بيتُه. |
*** |
حدَّث ابنُ عَبَّاس (8) قال: |
خرجَ أبو بكرٍ رضِيَ اللّهُ عنه بالهاجِرَةِ (9) إلى المسجدِ فرَاه عمرُ رضيَ اللّهُ عنه، فقال: |
يا أبا بكرٍ ما أخْرَجَكَ هذه الساعَةَ؟! |
قال: ما أخرجني إلا ما أجِدُ من شِدَّة الجوعَ. |
فقال عمر: |
وأنا واللّهِ ما أخرَجَني غيرُ ذلك. |
فَبَيْنَمَا هُما كذلك إذْ خَرَجَ عليهما رسولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فقال: ما أخْرَجَكُمَا هذه الساعةَ؟! |
قالا: |
واللّهِ ما أخْرَجَنَا إلا مَا نَجِدُه في بطونِنا من شِدَّةِ الجوعِ. |
قال عليه الصلاة والسَّلامُ: وأنا- والذي نفسِي بيدِه- ما أخرَجَني غيرُ ذلك. |
قُومَا معى، فانطَلقوا فأتَوا بابَ أبي أيوبَ الأنصاريِّ رضيَ اللّهُ عنه، وكان أبو أيوبَ يَدَّخِرُ لرسولِ اللّه كلَّ يومٍ طعاماً، فإذا أبطأ عنه ولم يَأتِ إليه في حينِه أطعمَه لأهلِهِ. |
فلما بلغوا البابَ خَرَجتْ إليهم أمُّ أيوبَ، وقالت: |
مَرْحباً بنَبيِّ اللّهِ وبمن معه، فقال لها النبيُّ عليه الصلاةُ والسلامُ: |
أينَ أبو أيوبَ؟ فَسَمِعَ أبو أيوبَ صوتَ النبيِّ- وكان يَعْمَلُ في نَخْل قريبٍ له- فأقْبَلَ يُسْرِعُ، وهو يقول: |
مَرْحباً برسولِ اللّهِ وبمن مَعَه، ثم أتبعَ قائلاً: يا نبيَّ اللّهِ ليسَ هذا بالوقتِ الذي كنتَ تجيءُ فيه، فقالَ عليه الصلاةُ والسلامُ: صَدَقْتَ، ثم انطلق أبو أيوبَ إلى نَخِيلهفقطعَ منه عِذْقاً فيه تمرٌ ورُطَبٌ وبُسْرٌ (10). |
فقال عليه الصلاةُ والسلامُ: |
ما أردتُ أن تَقْطَعَ هذا، ألا جنَيْتَ لنا من تمره؟ |
قال: يا رسول اللّهِ أحْبَبْتُ أنْ تأكلَ من تمرِه ورُطَبِه وبُسْرِه، ولأذْبَحَنَّ لك أيضاً. |
قال: |
إنْ ذَبَحْتَ فلا تَذْبَحنَّ ذاتَ لَبَن. |
فأخَذَ أبو أيوبَ جَدْياً فذَبَحَه، ثم قال لامرَأتِه: |
اعْجِني واخبزي لنا، وأنتِ أعْلَمُ بالخَبْزِ، ثم أخذ نِصْفَ الجَدْيِ فَطبخَه، وعَمَدَ إلى نِصْفه الثاني فشَوَاه، فلمَّا نَضِجَ الطَّعَامُ ووُضِعَ بين يَدَي النبيِّ وصاحبيه، اخَذَ الرسولُ قِطْعَةً من الجَدْيِ وَوَضَعها في رغيفٍ ، وقال: |
يا أبا أيوبَ بادِر (11) بهذه القِطْعَةِ إلى فاطمَةَ، فإنَّها لم تُصِبْ مثلَ هذا منذُ أيام. |
فلما أكلوا وشبعوا قال النبي صلى الله عليه وسلم : |
خبزٌ ، ولحمٌ ، وتمرٌ ، و بُسْرٌ ، و رُطَب!!! |
وَدَمَعَتْ عيناه ثم قال: والذي نفْسي بيدهِ إنَّ هذا هو النعيمُ الذي تُسْألون عنه يومَ القيامةِ، فإذا أصَبْتُمْ (12) مثلَ هذا فَضَرَبْتُم بأيديكم فيه فقولوا: |
بِسم اللّهِ، فإذا شبِعْتُم فقولوا: |
الحمدُ للّهِ الذي هو أشْبَعَنا وأنعَمَ علينا فأفضلَ. |
ثم نَهَضَ الرسولُ صَلَوَاتُ اللّهِ عليه، وقال لأبي أيوبَ: |
ائتِنَا غداً. |
وكان عليه الصلاةُ والسلامُ لا يَصنَعُ له أحدٌ معروفاً إلا أحبَّ أنْ يُجَازِيَه عليه؛ لكِنَّ أبا أيوبَ لم يَسْمَعْ ذلك. |
فقال له عمرُ رضوانُ اللّه عليه: |
إنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يأمركَ أنْ تأتِيَه غداً يا أبا أيوبَ. |
فقال أبو أيوب: |
سمعاً وطاعةً لرسولَ اللّهِ. |
فلمَّا كان الغَدُ ذَهَبَ أبو أيوبَ إلى النبيِّ عليه الصَّلاةُ والسلامُ فأعطاه وليدَةً (13) كانت تَخْدِمُه، وقال له: |
اسْتَوصِ بها خيراً- يا أبا أيوبَ- فإنّا لم نَرَ مِنْها إلا خَيْراً ما دامت عندنا. |
*** |
عاد أبو أيوبَ إلى بيته ومعه الوليدةُ؛ فلما رأتها أمُّ أيوبَ: |
قالت: لمن هذه يا أبا أيوبَ؟! |
قال: |
لنا... منَحَنَا إيَّاها رسولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. |
فقالت: |
أعظِمْ بهِ من مانِحٍ وأكرِمْ بها من مِنْحةٍ . |
فقال: |
وقد أوصانا بها خيراً. |
فقالت: |
كيفَ نَصْنَعُ بِها حتَّى نُنَفِّذَ وَصِيَّةَ رسولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم ؟ |
فقال: |
واللّهِ لا أجِدُ لِوَصيَّةِ رسولِ اللّهِ بها خيراً من أنْ أعْتِقَها. |
فقالت: |
هُديتَ إلى الصَّوابِ، فأنْتَ مُوَفَّقٌ ... ثم أعْتَقَها. |
*** |
هذه بعضُ صورِ حياة أبى أيوبَ الأنصاريِّ في سِلْمه، فلو أتيح لَكَ أنْ تَقِفَ على بَعْضِ صورِ حياتِه في حَرْبه لرأيت عجباً... |
فقد عاش أبو أيوبَ رَضِىَ اللّه عنه طولَ حياتِه غازياً حتَّى قيلَ: إنَّه لم يتخلّفْ عن غَزْوةٍ غزاها المسلمون مُنْذُ عَهْدِ الرسولِ إلى زَمَن معاويةَ إلا إذا كان مُنْشَغِلاً عنها بِأخْرَى. |
وكانت آخِرُ غزواتِه حينَ جَهَّزَ مُعاويَةُ جَيشاً بِقِيَادَةِ ابنهِ يزيدَ، لِفَتْح القُسْطنطنيَّةِ وكان أبو أيوبَ آنذاك شيخاً طاعناً في السن يحبو نحو الثمانين من عُمُرِه فلم يَمْنَعْه ذلك من أنْ يَنْضوي (14) تَحْتَ لواءِ يزيدَ، وأنْ يَمْخُر عُبابَ (15) البَحر غازياً في سبيل اللّهِ. |
لكِنَّه لم يَمْضِ غيرُ قليل على منازَلَةِ العَدُوِّ حتَّى مَرِض أبو أيوبَ مَرَضاً أقْعَده عن مُوَاصَلَةِ القتالِ، فجاء يزيدُ لِيَعودَه وسألهَ: |
ألكَ من حاجَةٍ يا أبا أيوبَ؟ |
فقال: اقرأ عَني السلامَ على جنودِ المسلمين، وقُلْ لهم: يوصيكم أبو أيوبَ أن تُوغِلوا في أرضِ العَدُوِّ إلى أبعدِ غايةٍ ، وأن تَحْمِلوه مَعَكُم، وأن تَدْفِنوه تَحْتَ أقدامِكم عِنْدَ أسوار القُسْطَنْطنية. ولَفَظَ أنفاسَه الطاهِرَةَ. |
*** |
استجابَ جندُ المسلمين لِرَغْبَةِ صاحبِ رسولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم ، وكرّوا على جُنْدِ العدوِّ الكَرَّة بَعْدَ الكرَّةِ حتَّى بلغوا أسْوارَ القُسْطَنْطِينيةِ وهم يَحْمِلون أبا أيوب معهم. وهناك حفَروا له قبراً ووارَوْهُ فيه. |
*** |
رَحِمَ اللّهُ أبا أيوب الأنصاريَّ، فقد أبى إلا أنْ يموتَ على ظُهورِ الجيادِ الصافِنَاتِ غازياً في سبيل اللّه... وسِنُّه تقارب الثمانين... (*)
|
(*) للاستزادة من أخبار أبي أيوب أنظر: |
ا- الإصابة- طبعة السعادة-: 2/89- 290. |
2- الاستيعاب (حيدر آباد): 1/ 152. |
3- أسد الغابة: 5/143- 144. |
4- تهذيب التهذيب: 3/ 90- 91. |
5- تقريب التهذيب 1/213. |
6- ابن خياط: 89 ،140 ، 190، 3030. |
7- تجريد أسماء الصحابة:1/161. |
8- خلاصة تذهيب تهذيب الكمال: 100، 101. |
9- الجرح والتعديل: ج 1 ق 2/ 131. |
10- صفة الصفوة:1/186- 187. |
11- الطبقات الكبرى:3/484- 485. |
12- العبر:1/56. |
13- تاريخ الإسلام للذهبي:2/327، 328. |
14- شذرات الذهب: 1/57. |
15- دائرة المعارف الإسلامية: 1/309، 310. |
16- الجمع بين رجال الصحيحين: 1/118- 119. |
17- من أبطالنا الذين صنعوا التاريخ (لأبي لمط الفتوح التونسى): 105- 110. |
18- سلسلة أعلام المسلمين (رقم 4). |
9 1- ا لاً علام: 2/ 336. |
(3) أشرعوا: فتحوا. |
(4) قباء: قرية تبعد عن المدينة نحو ميلين. |
(5) المنعة: القوَّة التي تمنع من يريده بسوءٍ . |
(6) سقط في أيدي الزوجين: تحيَّرا وندما وركبهما الهمّ. |
(9) الهاجرة: نصف النهار في شدة القيظ. |
(10) العذق: غصن له شعب، والرطب: ما نضج من تمر النخل، والبسر: ما لم يكتمل نضجه. |
(11) بادر: عجل. |
(12) أصبتم: نِلْتُم. |
(13) وليدة: جارية صغيرة. |
النعمان بن مقرن المزني |
"إن للإيمان بيوتاً، وللنفاق يبوتاً، |
وإن بيت بني مقرن من بيوت الإيمان " |
"عبد الله بن مسعود" |
|
كانت قبيلةُ مُزَيْنَةَ تتخذُ منازِلَها قريباً من يَثْرِبَ على الطريقِ المُمْتَدَّةِ بين المدينةِ ومكَّةَ. |
وكان الرسولُ صلواتُ اللّهِ وسلامُه عليه قد هاجَر إلى المدينةِ، وجَعَلَتْ أخبارُه تَصِلُ تِبَاعاً إلى مُزَيْنَةَ معَ الغادِينَ والرائِحينَ، فلا تَسْمَعُ عنه إلاَّ خَيْراً. |
وفي ذاتِ عَشِيَّةٍ ، جَلَسَ سَيِّدُ القومِ، النعمانُ بنُ مقرِّنٍ المزنيُّ، في ناديه مع إِخْوَتهِ ومَشْيَخَةِ قبيلتهِ فقال لهم: |
يا قوم واللّهِ ما عَلِمْنا عن محمدٍ إِلاَّ خيراً، ولا سَمِعْنَا من دَعْوَتِهِ إِلاَّ مَرْحَمَةً وِإحْساناً وعَدْلاً، فما بالُنا (1) نُبْطِئُ عنه، والناسُ إليه يُسْرِعون؟! |
ثم أتبعَ يقول: |
أما أنا فقد عَزَمْتُ على أن أغدُوَ (2) عليه إِذا أصْبَحْتُ، فمَنْ شاءَ منكم أنْ يكونَ مَعي فَلْيَتَجَهَّزْ. |
وكأنَّمَا مَسَّتْ كلماتُ النُّعْمَانِ وَتَراً مُرْهَفاً في نفوسِ القوم، فما إِنْ طَلَعَ الصباحُ حَتَّى وَجَدَ إِخْوَتَهُ العشرةَ، وأربَعَ مِائَةِ فارس من فرسانِ مُزَيْنَةَ قد جَهَّزوا أنفُسَهُمْ لِلْمُضِيِّ مَعَه إِلى يَثْرِبَ لِلِقَاء النبيِّ صلواتُ اللّه وسلامُه عليه، والدُّخول في دينَ اللّهِ. |
بَيْدَ أن (3) النُّعْمَانَ اسْتَحَى أن يَفِدَ مع هذا الجمع الحاشِدِ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم دونَ أن يَحْمِلَ له وللمسلمين شيئاً في يَدِه. |
لكنَّ السَّنةَ الشَّهْبَاءَ (4) المُجْدِبَةَ التي مَرَّتْ بِها مُزَيْنَةُ لم تَتْرُكْ لها ضرْعاً (5) وَلا زَرْعاً. |
فطافَ النُّعْمَانُ بِبَيْتِهِ وَبُيُوتِ إِخْوَتِهِ، وجَمَعَ كُلَّ ما أبْقَاهُ لهمُ القَحْطُ من غُنَيْماتٍ ، وساقَها أمَامَهُ وقَدِمَ بها علَى رسولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم ، وأعْلَنَ هو ومَنْ معه إِسلامَهم بينَ يَدَيْه. |
*** |
اهتَزَّتْ يثربُ من أقْصاهَا إِلى أقصاها فَرَحاً بالنُّعْمَانِ بنِ مُقَرِّنٍ وصَحْبِه، إِذْ لم يَسْبِقْ لِبَيْتٍ مِنْ بيوتِ العربِ أن أسْلَمَ منه أحدَ عَشَرَ أخاً من أبٍ واحدٍ ومَعَهُمْ أربعُ مائة فارِسٍ. |
وسُرَّ الرسولُ الكريمُ بإسلامِ النعمانِ أبلغَ السُّرورِ. |
وتَقَبَّلَ اللّه جَلَّ وَعَزَّ غُنَيْمَاتِهِ، وَأنْزَلَ فيهِ قرَآناً فقال: |
{ وَمِنَ الأعْرَابِ مَنْ يُؤمِنُْ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الاَخِر، وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللّهِ، وَصَلَوات الرَّسُولِ، ألاَ إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللّهُ في رَحْمَتِهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحيمُ } (6) . |
*** |
انْضَوَى (7) النُّعْمَانُ به مُقَرنٍ تحتَ رايةِ رسولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم، وشَهِدَ معهُ غَزَوَاتِهِ كُلَّها غيرَ وانٍ (8) ولا مُقَصِّر. |
ولما آلتِ الخِلافَةُ إِلى الصِّدِّيقِ وقفَ معه هو وقومُه من بنى مُزَيْنَةَ وَقْفَةً حازِمَةً كان لها اثرٌ كبيرٌ في القَضاء على فِتْنَةِ الرِّدَّة. |
*** |
ولما صارَتِ الخِلاَفَةُ إِلى الفاروقِ كان للنعمان بنِ مقرِّنٍ في عهدِه شَأن ما يَزَالُ التاريخُ يَذْكُرُهُ بلسانٍ نَدِي بِالْحَمْدِ، رَطيبٍ بالثناءِ. |
*** |
فقُبَيْلَ الْقَادِسِيَّة، أرسلَ سعدُ بنُ أبي وَقَّاص قائدُ جيوشِ المسلمينَ وَفْداً إِلى كِسْرَى يَزْدَجُرْدَ بِرِئاسَةِ النُّعْمَانِ بنِ مُقَرِّنٍ لِيَدْعُوَهُ إلى الإسلامِ. |
ولما بلغوا عاصِمَةَ كِسْرَى في المدائِنِ استأذنوا بالدُّخولِ عليه فأذِنَ لهم، ثم دعَا التَّرجُمَانَ فقال له: |
سَلْهُمْ: ما الذي جاءَ بِكم إِلى دِيارِنا وأغرَاكُمْ (9) بِغَزْوِنَا؟! لَعَلَّكُمْ طَمِعْتُمْ بنا واجْتَرَأتمْ علينا لأنَنّاَ تَشَاغَلْنَا عَنْكُمْ، ولم نَشَأ أنْ نَبْطِشَ بكم. |
فالْتَفَتَ النعمانُ بنُ مُقَرِّنٍ إلى مَنْ مَعَهُ وقال: إنْ شئتم أجَبْتُهُ عنكم، وِإنْ شاءَ أحدُكم أنْ يَتكَلَّمَ آثرْتُهُ (10) بالكلامِ، فقالوا: |
بل تَكَلَّمْ، ثم التَفَتُوا إلى كِسْرَى وقالوا هذا الرجلُ يَتَكَلَّمُ بِلِسَانِنَا فَاسْتَمِعْ إلى ما يقول. |
فَحَمِدَ النُّعْمَان اللّهَ وَأثنَى عليه، وصَلى على نَبِيِّهِ وَسَلّمَ، ثم قال: |
إِنَّ اللّهَ رَحِمَنَا فأرْسَلَ إِلينا رسولاً يَدُلُّنَا على الخيرِ ويأمُرُنا به، ويُعَرِّفُنَا الشَّرَّ وَيَنْهانا عنه. |
ووعَدَنا- إِنْ أجَبْنَاهُ إِلى ما دعانا إليه- أنْ يُعْطِيَنَا اللّهُ خَيْرَي الدنيا والآخِرة. |
فما هو إِلاَّ قليلٌ حتَّى بَدَّلَ اللّهُ ضِيقَنَا سَعَةً، وذِلَّتَنا عِزَّةً، وَعداوتِنا إخاءً ومَرحَمَةً. |
وقد أمرَنَا أنْ نَدْعُوَ الناسَ إلى ما فيه خيرهُمْ وأنْ نَبْدَأ بَمَنْ يجاورنا. |
فنحنُ ندعوكم إِلى الدخولِ في ديننا، وهو دين حَسَّنَ الحَسَنَ كَلَّهُ وحَضَّ (11) عليه، وقَبَّحَ الْقَبِيحَ كَلَّهُ وَحَذَّرَ منه، وهوَ يَنْقُلُ مُعْتَنِقيهِ (12) من ظلامِ الكُفرِ وجَوْرِه إِلى نورِ الإيمانِ وعَدْلِه. |
فإنْ أجبْتُمُونا إلى الإسلامِ خَلَّفْنا فيكم كتابَ اللّهِ وَأقَمْنَاكُمْ عليه، على أن تَحْكُمُوا بأحكامِه، ورَجَعْنَا عنكم وتَرَكْنَاكُم وشأنكم. |
فإنْ أبيْتُمُ الدخولَ في دينِ اللّهِ أخذْنا منكم الْجِزْيَةَ وَحَمَيْنَاكم، فإنْ أبَيْتُمْ إِعطاءَ الجِزْيةِ حارَبْناكم . |
فاسْتَشَاطَ (13) يَزْدَجرْدُ غَضَباً وغَيْظاً مِمَّا سَمِعَ، وقال: |
إني لا أعلمُ أمَّةً في الأرضِ كانت أشْقَى منكم ولا أقَلَّ عدداً، ولا أشَدَّ فُرْقَةً، ولا أسْوَأ حالاً. |
وقد كُنَّا نكِلُ أمْركم إلى وُلاَةِ الضَّوَاحِي فيأخذون لنا الطاعَةَ منكم. |
فإنْ كانت الحاجَةُ هي التي دَفَعَتْكُمْ إلى المجيء إلينا أمَرْنَا لكم بِقوتٍ إلى أن تُخْصِبَ ديَارُكم، وكَسَوْنَا سَادَتَكُمْ وَوُجوهَ قومِكم، ومَلَّكْنَا (14) عليكم مَلِكاً من قِبَلِنَا يَرْفُقُ بكم. |
فرَدَّ عليه رَجُلٌ من الوفدِ رَدّاً أشْعَلَ نارَ غَضَبِهِ من جديدٍ فقال: |
لولا أن الرُّسُلَ لا تُقْتلُ لَقَتَلْتُكُم. |
قوموا فليس لكم شَيْءٌ عندي، وأخْبِرُوا قائِدَكم أنِّي مُرْسِل إِلَيْهِ "رُسْتُم "(15) حتَّى يَدْفِنَهُ وَيَدْفِنكُم معاً في خَنْدَقِ الْقَادِسِيَّةِ (16). |
ثم أمَرَ فَأتِيَ لَهُ بِحِمْلِ تُرَابٍ ، وقال لِرِجالِه: حَمِّلوهُ على أشْرَف هؤلاءِ، وسوقوه أمامَكم على مرأىً من النَّاسِ حتى يَخْرُجَ من أبوابِ عاصمةِ مُلْكِنَا. فقالوا للوفد: |
مَنْ أشْرَفُكُمْ؟ فبادرَ إِليهم عاصِمُ بنُ عُمَرَ وقال: أنا. |
فَحَمَّلُوهُ عليه حتى خَرَجَ مِنَ المدائِنِ، ثم حَمَّلَهُ عَلَى ناقَتِهِ وأخَذَه معه لِسَعْدِ بنِ أبي وَقَّاص، وَبَشَّرَهُ بِأن اللّهَ سَيَفْتَحُ علَى المسلمين دِيَارَ الفرْسِ وَيُمَلِّكُهُمْ تُرَابَ أرضِهم. |
ثم وقعت معركةُ القادسيةِ، واكْتَظَّ (17) خَنْدَقُها بِجُثَثِ آلافِ الْقَتْلَى، ولكِنَّهُم لم يكونوا من جُنْدِ المسلمين، وِإنَّما كانوا من جنودِ كِسْرَى. |
*** |
لَمْ يَسْتَكِنِ الفرْسُ لِهَزيمَةِ القَادِسِيَّةِ، فجَمَعوا جموعَهم، وَجَيَّشُوا جُيوشَهم حتَّى اكْتَمَلَ لهم مِائةٌ وخَمْسُونَ ألْفاً من أشِدَّاءِ الُمقاتلين. |
فلما وَقَف الفاروقُ على أخبارِ هذا الحَشْدِ العظيمَِ، عَزَمَ علَى أنْ يَمْضِىَ إِلى مواجهةِ هذا الخطرِ الكبير بنفسِه. |
ولكِنَّ وجوهَ المسلمين
ثَنَوْهُ (18)
عن ذلك، وأشاروا عليه أن يُرْسِلَ قائدا
يُعْتَمدُ
عليه في مِثْلِ هذا الأمرِ
الجَلِيل. |
فقال عمرُ: |
أشيروا عَلَىَّ برجل لأُوَلِّيَه ذلك الثَّغْرَ. |
فقالوا: |
أنتَ أعلمُ بجُنْدِكَ يا أميرَ المؤمنين. |
فقال: |
واللّهِ لأوَلِّيَنَّ على جُنْدِ المسلمين رجلاً يكونُ- إِذا الْتَقَى الْجَمْعَانِ- أسْبَقَ من الأسِنَّةِ، هو النُّعْمانُ بنُ مُقَرِّنٍ المُزَنيّ. |
فقالوا: |
هو لها. |
فكتبَ إِليه يقول: |
من عبدِ اللّهِ عمرَ بنِ الخطابِ إلي النُّعْمَانِ بنِ مُقَرِّن. |
أما بعد. فإِنَّه بَلَغَني أن جموعاً من الأعاجم كثيرَةً قد جَمَعوا لكُمْ بمدينةِ "نَهاوَنْد". فإذا أتاكَ كتابي هذا فَسِرْ بِأمْرِ اللّهِ، وَبِعَوْنِ اللّهِ، وَبِنَصرِ اللّهِ بَمَنْ مَعَكَ من المسلمين، ولا تُوطِئْهُمْ وَعْراً فُتؤذِيَهم.. فإن رجلاً واحداً من المسلمين أحب إِليَّ من مائة ألف دينار والسلام عليك. |
هب النعمان بجيشه للقاء العدو وأرسل أمامه طلائع من فرسانه لتكشف له الطريق. فلما اقْتَرَبَ الفرسانُ من "نَهَاوَنْدَ" تَوَقَّفَتْ خيولُهم، فدفعوها فلم تَنْدَفِعْ، فَنَزَلوا عن ظُهورِها ليعرِفوا الخَبَرَ فوجدوا في حَوافِرِ الخيل شظَايا من الحديدِ تُشبِهُ رؤُوسَ المسامير، فَنَظَروا في الأرضِ فإذا الْعَجَمُ قد نَثَرُوا في الدُّروبِ المُؤدِّيَةِ إلى "نَهَاوَنْدَ" حَسَكَ الحديدِ، لِيَعُوقوا الفُرْسانَ والمُشاة عنِ الوُصولِ إليها. |
*** |
أخبرَ الفُرْسانُ النعمانَ بما رَأوْا، وطَلَبُوا مِنْه أنْ يُمِدَّهُم بِرَأيِه، فَأمَرَهُمْ بِأنْ يَقِفوا في أماكِنِهم، وأن يوقِدوا النيرانَ في الليلِ لِيَرَاهُم الْعَدُوُّ، وعندَ ذلك يتظاهرونَ بالخوفِ منه والهزيمَةِ أمَامَه لِيُغْرُوهُ باللَّحَاقِ بهم وإزالَةِ ما زَرَعَه من حَسَكِ الحديدِ. |
وجازَتِ الحيلةُ على الفُرْسِ، فما إِنْ رأوا طَلِيعَةَ جيش المسلمين تَمْضى مُنْهَزِمَةً أمَامَهم حتَّى أرسلوا عُمَّالَهُمْ فكَنَسُوا الطُّرُقَ مِنَ الحَسَك، فكَرَّ عليهمُ المسلمونَ واحْتَلُّوا تلكَ الدُّروبَ. |
*** |
عَسْكَرَ النعمانُ بنُ مُقَرِّنٍ بِجَيْشِهِ على مَشارِفِ "نَهَاوَنْدَ" وعَزَمَ على أن يُبَاغِتَ عَدُوَّهُ بالُهجوم، فقال لجنودِه: |
إني مُكًبِّرٌ ثلاثاً، فإذا كَبَّرْتُ الأولى فَلْيَتَهَيَّأ مَنْ لَمْ يَكُنْ قد تَهَيَّأ، وإذا كَبَّرْتُ الثَّانِيَةَ فَلْيَشْدُدْ كَلُّ رجل منكم سِلاحَهُ على نفسِه، فإذا كَبَّرْتُ الثالثةَ، فإِنِّي حامِلٌ على أعْداءِ اللّهِ فاحْمِلوا معي. |
*** |
كَبَّرَ النعمانُ بنُ مُقرِّنٍ تَكْبيراتِه الثلاث، واندفعَ في صفوفِ العدوِّ كأنَّه الليثُ عادِياً، وتدفَّقَ وراءه جنودُ المسلمين تَدَفّقَ السَّيْل، ودارتْ بينَ الفريقيْنِ رَحَى معركة ضَروس قَلَّما شَهِدَ تاريخُ الحروبِ لها نظيراً. |
فتمزَّقَ جيشُ الفرسِ شَرَّ مُمَزَّقٍ ، ومَلأتْ قَتْلاهُ السهلَ والجبل. وسالَتْ دِماؤه في الممرَّاتِ والدُّروب، فَزَلِقَ جوادُ النعمانِ بنِ مُقَرنٍ بالدِّماءِ فَصُرعَ، وأصيبَ النعمانُ نفسُه إصابةً قاتِلَةً، فأخذَ أخوهُ اللواءَ من يَدِهِ، وسَجَّاهُ (19) بِبُردةٍ كانت معه وكَتَمَ أمْرَ مَصْرَعِهِ عن المسلمين. |
ولما تَمَّ النصرُ الكبيرُ الذي سَمَّاهُ المسلمونَ "فَتْحُ الفتوح". |
سَألَ الجنودُ المُنْتَصِرون عن قائِدِهم الباسِل النعمانِ بنِ مقرِّنٍ . |
فَرَفَعَ أخوهُ البُرْدَةَ عنه وقال: |
هذا أميرُكُم، قد أقرَّ اللّهُ عَيْنَهُ بالفَتْح، وخَتَم له بالشهادة (*). |
|
(*) للاستزادة من أخبار النعمان بن المقرن انظر: |
1- الإصابة: الترجمة: 8745. |
2- ابن الأثير 2/ 211 و 3/ 7. |
3- تهذيب التهذيب: 10/ 456. |
4- فتوح البلدان: 311. |
5- شرح ألفية العراقي: 3/ 76 |
6- ا لأعلام: 9/ 9. |
7- القادسية: 66- 73 (منشورات دار النفائس- بيروت). |
|
|
|
(1) ما بالنا: كلمة تقال عند التعجب من فعل شيء أو تركه. |
(2) أغدو عليه: أذهب إليه في الغداة. والغداة: البكرة. وهى ما بين الفجر وطلوع الشمس. |
(3) بيد أن: غير أن. |
(4) السنة الشهباء: السنة المجدبة التي لا خضرة فيها. |
(5) ضرعاً: الضرع كناية عن النعم. |
(6) 1لتوبة: 99. |
(7) انضوى: انضم ودخل. |
(8) غير وان ولا مقصر. |
(9) أغراكم بغزونا: رغبكم بغزونا وحضكم عليه. |
(10) آثرته بالكلام: فضلته وجعلته يتكلم أولاً. |
(11) حض عليه: رغب فيه وحث عليه. |
(12) معتنقيه: المؤمنين به. |
(13) استشاط غضباً: اشتعل. |
(14) ملكنا عليكم: ولَّينا عليكم. |
(15) رستم: قائد جيش الفرس. |
(16) القادسية: مكان في العراق غربي النجف وقعت فيه معركة الكبرى الفاصلة التي دعيت بمعركة القادسية. |
(17) اكتظ خندقها: امتلأ خندقها. |
(18) ثنوه: ردوه. |
(19) سجاه: غطَّاه. |
أُسَيْد بن الحُضَير |
" تلك الملائكة كانت |
تستمع إليك يا أسيد ....." |
محمد رسول الله |
|
قَدِمَ الفَتَى المكِّيُّ مُصْعَبُ بنُ عُمَيْرٍ إلَى يَثْرِبَ (1)، في أوَّل بَعْثَة تَبْشِيريةٍ عَرَفَهَا تاريخُ الإسلام. |
فَنَزَلَ على أسعدَ بنِ زُرَارَةَ أحَدِ أشرافِ الخَزْرَجِ (2)، واتَّخَذَ مِنْ دارِه مَقاما لنفسهِ، ومُنْطَلَقاً لِبَثِّ دَعْوَتِهِ إلى اللّهِ، والتبشِيرِ بِنَبيِّه محمدٍ رسولِ اللّهِ. |
وأخذ أبناءُ يَثْرِبَ يُقبِلون على مجالِسِ الدَّاعِيَةِ الشابِّ مُصْعِبِ بنِ عُمَيْرٍ إِقبالاً كبيراً. |
وكان يُغْرِيهمْ (3) به عُذوبَةُ حديثهِ، ووضُوحُ حُجَّتِهِ، ورِقّةُ شَمائِلِه (4)، ووَضاءَةُ الإيمانِ التي تُشرِقُ من وَجْهِه القسِيم الَوسيم (5). |
وكان يجذِبُهم إليه شيءٌ آخَرُ فوق ذلك كلِّه، هو هذا القرَانُ الذي كان يَتْلو عليهم بَيْنَ الفيْنَةِ وَالفيْنَةِ (6) بَعْضاً من آياتِه البَيِّناتِ، بِصوْتِهِ الشَّجِيِّ الرّخيم، ونَبَرَاتِه الحُلْوَةِ الآسِرَةِ، فَيَسْتَلينُ به القلوبَ القاسِيَةَ، وَيَسْتَدِرُّ الدُّموع العاصِيَةَ، فلا يَنْفضُّ (7) المجلسُ مِنْ مجالِسِه إِلاَّ عن أناس أسْلموا وانْضَمَّوا إلى كتائِبِ الإيمانِ. |
*** |
وفي ذاتِ يوم، خَرَجَ أسعدُ بنُ زُرَارَةَ بضيفِه الداعِيَةِ مُصْعَبِ بن عُمَيْرٍ ، لِيَلْقَى جماعةً من بَني عبدِ الأشْهَلِ، ويَعْرض عليهم الإسْلامَ، فدخلا بُسْتاناً من بساتين بني عبدِ الأشْهَل، وجَلَسا عِنْدَ بِئْرِها العَذْبَةِ في ظِلالِ النخيلِ. |
فاجْتَمَعَ على مُصْعَبٍ جماعة قد أسْلموا وآخَرون يريدون أنْ يَسْمعوا، فانطلقَ يدعو ويُبَشِّرُ، والناسُ إليه منصتُونَ، وَبرَوْعَةِ حديثه مأخوذون. |
*** |
فجاءَ مَنْ أخْبَرَ أسَيْدَ بنَ الحُضيْرِ وسَعْدَ بنَ معاذ- وكانا سَيِّدَي الأوس (8)- بأنَّ الداعِيةَ المكيَّ قد نَزَلَ قريباً من ديارِهما، وأنَّ الذي جَرَّأهُ على ذلك أسعدُ بنُ زُرَارَةَ. |
فقال سعدُ بنُ معاذٍ لأسَيْدِ بن الحُضَيْرِ: |
لا أبا لك يا أسَيْدُ (9)، اِنْطَلِقْ إلى هذا الفتى المكيِّ الذي جاء إلى بيوتنا لِيُغْرِيَ (10) ضعَفَاءَنَا، وَيُسَفِّهَ آلِهَتنا، وازْجُرْهُ (11)، وحَذِّرْهُ مِنْ أن يَطَأ دِيَارَنا بعدَ اليومِ. |
ثم أرْدَفَ يقول: |
ولولا أنّهُ في ضِيَافَةِ ابن خالتي أسعدَ بن زُرَارَةَ، وأنَّه يَمْشي في حِمَايتِه لكفيتُك ذلك. |
*** |
أخذَ أسَيْدٌ حَرْبَتَهُ، ومَضَى نَحْوَ الْبُسْتَان، فلمَّا رآهُ أسعدُ بنُ زُرارَةَ مُقْبلاً قال لمصعَبٍ : |
وَيْحَكَ يا مُصْعَبُ، هذا سَيِّدُ قومِه، وأرْجَحُهُمْ عقلاً، وأكملهم كمالاً: أسَيْدُ بنُ الحُضَيْر. |
فإن يُسْلِمْ تَبِعَهُ في إِسْلامِهِ خَلْقٌ كثيرٌ ، فاصْدُق اللّهَ فيه، وأحْسِنِ التَّأنّي له (12). |
*** |
وقفَ أسيدُ بنُ الحُضيْرِ على الْجَمْع، والْتَفَتَ إلى مُصْعَبٍ وصاحِبه وقال: |
ما جاءَ بكما إلى ديارنا، وأغراكما بضُعَفَائِنا ؟! اِعْتَزِلا هذا الحَيَّ (13) إِنْ كانَتْ لكما بنَفْسَيْكما حاجة (14). |
فالْتَفَتَ مُصْعب إلى أسَيْدٍ بِوَجْهِهِ الُمشْرِقِ بِنُورِ الايمان، وخاطَبَه بِلَهْجَتِهِ الصَّادِقَةِ الآسِرَةِ وقال له: |
يا سَيِّدَ قَوْمِه، هَلْ لَكَ في خَيْرٍ من ذلك. |
قال: |
وما هو؟ |
قال: |
تجلِسُ إلينا وتَسْمَعُ مِنَّا، فإنْ رضيتَ ما قُلْنَاهُ قَبِلْتَه، وإنْ لم تَرْضَهُ تَحَوَّلْنَا عَنْكُم ولم نَعُدْ إِليكم. |
فقال اُسَيْد: |
لقد أنصَفْتَ، وركَزَ رُمْحَهُ في الأرضِ وجَلَسَ. |
فأقبَلَ عليه مُصْعب يَذْكُرُ له حقيقةَ الإسلامِ، ويقرأ عليه شيئاً من آياتِ القرَان؟ فانْبَسَطَتْ أسارِيرهُ وأشرَقَ وجهُهُ وقال: |
ما أحسن هذا الذي تقولُ، وما أجَلَّ ذلك الذي تَتْلو!!! |
كيف تصنعون إذا أرَدْتُمُ الدخولَ فِي الإسلامِ؟!. |
فقال له مصعب: |
تَغْتَسِلُ وَتُطَهِّرُ ثيابَك، وتشهدُ أن لا إلهَ إِلاَّ اللّه وأن محمداً رسولُ اللّهِ، وتُصَلِّي رَكْعَتَيْن. |
فقام إلى البئر فَتَطَهَّرَ بمائها، وشَهدَ أنْ لا إلهَ إلاَّ اللّه وأنَّ محمداً عبدهُ ورسولُه وصَلَّى رَكْعَتَيْنِ. |
فانضم في ذلك اليوم إلى كَتَائِبِ الإسلامِ فارس من فُرْسانِ العَرَبِ المَرْموقين (15)، وسيِّد من ساداتِ الأوْسِ المَعْدودين. |
كان يُلَقِّبُهُ قوُمه بالكَامِلِ، لِرَجاحةِ عقلِه، ونبَالَةِ أصْلِهِ، ولأنَّه مَلَكَ السَّيْفَ والقَلَمَ، إذْ كان بالإضافةِ إِلى فُروسِيتِهِ ودِقَّةِ رَمْيِهِ، قارِئاً كاتباً في مجتمع نَدَرَ فيه مَنْ يَقْرأ وَيَكتُب. |
وقد كان إسْلامُه سبباً في إسلام سَعْدِ بنِ معاذٍ . |
وكان إسلامُهما معاً سبباً في أن تُسْلِمَ جُموع غَفِيرَة (16) من الأوْسِ. |
وأن تُصبحَ المدينةُ بَعْدَ ذلك مُهاجراً (17) لِرَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم ، ومَوْئِلاً (18) وقاعِدَة لِدَوْلةِ الإسْلامِ العُظْمَى. |
*** |
أولِعَ (19) أسيدُ بنُ الحُضَيْرِ بالقرَآنِ- مُنْذُ سَمِعَهُ من مُصْعَبِ بنِ عُمَيْرٍ – وَلَعَ الُمحِبِّ بحبيبه- وأقبَلَ عليه إقبالَ الظامِئ على المَوْرِدِ الْعَذْبِ في اليوم القائِظِ، وجَعَلَه شُغْلَهُ الشَّاغِلَ. |
فكان لا يُرَى إِلاَّ مُجاهِداً غازِياً في سبيل اللّه، أو عاكِفاً يَتْلُو كتابَ اللّهِ. |
وكان رخيمَ الصوتِ، مُبينَ النُّطْقِ، مُشْرِقَ الأداءِ، تَطيبُ له قِراءَة القُرآنِ أكْثَرَ مَا تَطيبُ إِذا سَكَنَ الليلُ، ونامَتِ العيونُ، وَصَفَتِ النفوسُ. |
وكان الصحابَةُ الكِرامُ يَتَحَيَّنونَ (20) أوقاتَ قراءَتِهِ، ويتسابقون إِلى سَماعِ تِلاوَتِه. |
فيا سَعْدَ مَنْ يُتَاحُ له أن يَسْمَعَ القرَآنَ مِنْهُ رَطْباً طَريّاً كما انْزِلَ على محمدٍ . |
وقدِ اسْتَعْذَبَ أهلُ السَّمَاءِ تِلاَوَتَهُ؟ اسْتَعْذَبَها أهْلُ الأرْضِ. |
ففي جوفِ ليلةٍ من الليالي كان أسَيْدُ بنُ الحُضَيْرِ جالِساً في مِرْبَدِهِ (21)، وابنُه يحيى نائمٌ إلى جانِبه، وفرسُه التي أعَدَّها للجهادِ في سبيل اللّه مُرْتَبَطَة غَيْرَ بَعِيدٍ عنه. |
وكان الليلُ وادِعاً ساجِياً (22)، وأديمُ السماءِ رائِقاً صافِياً، وعيونُ النجومِ تَرْمُقُ الأرضَ الهاجِعَةَ بحنانٍ وعطفٍ . |
فتاقَتْ (23) نفسُ أسَيْدِ بنِ الحُضَيْرِ لأنْ يُعَطِّرَ هذه الأجْوَاءَ النَّدِيَّةَ بِطُيُوب القرَآنِ، فانْطَلَقَ يَتْلُو بِصوْتِهِ الرَّخيم الحنونِ. |
{ الم. ذلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْب فِيهِ هُدًى لِلمُتَّقينَ. الَّذِينَ يؤمِنُونَ بالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ. وَالَّذِينَ يؤمِنُونَ بِما أنْزِلَ إِلَيْك ومَا أنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ }(24). |
فإذا به يَسْمَعُ فرسَهُ وقَدْ جَالَتْ (25) جَوْلَةً كادَت تَقْطَع بِسَبَبِها رِبَاطِهَا، فَسَكَتَ، فَسكَنَتِ الفرَسُ وقَرَّتْ. |
فعاد يَقْرَأ: |
{ أولئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأولئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ }(26). |
فجالَتِ الفرَسُ جَوْلَةً أشَدَّ مِنْ تِلْكَ وَأقْوَى. |
فسكت.. |
فسكنتْ.. |
وَكَرَّرَ ذلِكَ مِراراً، فكان إذا قرأ أجفَلَتِ(27) الفرسُ وهاجَتْ، وإذا سَكَتَ سَكَنَتْ وَقَرَّتْ. |
فخافَ على ابْنِه يحيى أن تَطَأه، فَمَضَى إليه لِيُوقِظَهُ، وهنا حانَتْ منه الْتِفَاتَةٌ الى السماء، فَرَأى غَمَامَةً كالْمظَلَّةِ لَمْ تَرَ الْعَيْنُ أرْوَعَ ولا أبهَى منها قَطّ وقد عُلِّقَ بها أمْثَالُ المصابيحِ، فملأتِ الأفاقَ ضِياءً وسناءً، وهى تَصْعَدُ إلى الأعلى حَتَّى غابَتْ عَنْ ناظِرَيْهِ. |
فلمَّا أصبَحَ مَضَى إلى رسولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم ، وقَصَّ عليه خَبَرَ ما رأى، فقال له النبيُّ عليه الصلاةُ والسلامُ: |
" تِلْكَ الملائكةُ كانتْ تَسْتَمِعُ لَكَ يا أسَيْدُ.. ولَوْ أنكَ مَضَيْتَ في قِراءَتِك لرآها الناسُ ولم تَسْتَترْ منهم "(28). |
*** |
وكما أولِعَ أسَيْدُ بنُ الحُضَيْرِ بكتابِ اللّهِ فقد أولِعَ برسولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فكان كما حَدَّثَ عن نفسِه- أصْفَى ما يكونُ صفاءً وأشَدَّ ما يكونُ شَفَافِيَة وإيماناً حين يَقْرأ القرآنَ أوْ يَسْمَعُه. |
وحينَ يَنْظُرُ إلى رسولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم وهو يَخْطُبُ أو يُحَدِّثُ. |
وكان كثيراً ما يَتَمنَّى أنْ يَمس جَسَدُهُ جَسَدَ رسولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم ، وأنْ يُكِبَّ عليه لاثِماً مُقَبِّلاً.. |
وقد أتِيحَ (29) له ذلك ذاتَ مَرَّةً. |
ففي ذاتِ يوم كان أسيدٌ يُطْرِفُ القومَ بِمُلَحِه (30)، فَغمَزَهُ (31) رسولُ اللّهِ صلوات اللّهِ عليه في خاصِرَتِهِ بِيَدِه، كأنَّه يَسْتَحْسِنُ ما يقول. |
فقال أسَيْدٌ : |
أوْجَعْتَني يا رسولَ اللّهِ. |
فقال عليه الصلاةُ والسلامُ: |
اقْتَصَّ مِنِّي يا أسَيْدُ. |
فقال أسيد: |
إنَّ عليكَ قميصاً ولم يَكُنْ عَلَيَّ قميصٌ حينَ غَمَزْتَني. |
فَرَفَعَ رسولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم
قميصَه عن جَسَدِه، فاحْتَضَنَهُ أسَيْدٌ
وَجَعَلَ يُقَبِّلُ ما بَيْنَ
إِبْطِهِ وخَاصِرَتِهِ وهو
يقول: |
بأبي أنتَ وأمِّي يا رسولَ اللّهِ، إِنها لَبُغْيَة كنتُ أتمنَّاها مُنْذُ عرفتُك، وقد بَلَغْتُها الآن. |
وقد كان الرسولُ صلواتُ اللّه عليهِ يُبَادِلُ أسَيْداً حُبّاً بِحُب، ويحفظُ له سابِقَتَه في الإسلامِ وَذَوْدَهُ(32) عَنْه يومَ أحُدٍ حتَّى إِنه طُعِنَ سَبْعَ طعناتٍ مُميتاتٍ في ذلك اليومَ. |
وكان يعرفُ له قَدْرَهُ وَمَنْزِلَتَهُ في قَوْمِهِ، فإذا شَفِعَ في أحدٍ مِنْهُمْ شَفَّعَهُ فيه. |
حَدَثَ أسَيْد قال: |
جئتُ إلى رسولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فذكرتُ له أهلَ بيتٍ من الأْنصارِ فيهم مَحاويج (33). وَجُلُّ أهلِ ذلك البيت نِسْوَة، فقال عليه الصَّلاةُ والسلامُ: |
لقدْ جِئْتَنَا يَا أسَيْدُ بَعْدَ أنْ أنْفَقْنَا مَا بِأيْدِينا، فإذا سمعتَ بشيء قد جاءَنا فاذْكُر لنا أهلَ ذلك البيتِ. |
فجاءَه بَعْدَ ذلك مال من خَيْبَر فقسَمَهُ بين المسلمين فأعطَى الأنصارَ وأجْزَلَ(34)، وأعْطَى أهلَ ذلك البيتِ وأجْزَلَ، فقلتُ له: |
جزاكَ اللّهُ عَنْهُم- يا نبيَّ اللّهِ- خيراً. |
فقال: |
وأنتم مَعْشَرَ الأنصارِ جزاكُمُ اللّهُ أطيَبَ الجزاءِ، فإنَّكم- ما عَلِمْتُ (35)- أعِفَّةٌ صُبُر، وإنَّكم سَتَلْقَوْنَ أثرَةً بَعْدِي (36)، فاصْبِروا حتَّى تَلْقَوْني، ومَوْعِدُكم الحَوْضُ (37). |
قال أسَيد: |
فلمَّا آلت الخِلاَفَةُ إلى عمرَ بنِ الخطابِ رضىَ اللّه عنه قَسَمَ بين المسلمين مالا ومَتَاعاً، فَبَعَثَ إلَيَّ بُحلَّة فاسْتَصْغَرْتُها.. |
فَبَيْنَا أنا في المَسْجِدِ إِذْ مرَّ بي شابّ من قُريش عليه حُلَّةٌ سابِغَة (38) من تلك الحُلَلِ التي أرسَلَهَا إلَيَّ عمرُ، وهو يجرُّها على الأرضِ جرّا، فذكرتُ لِمَنْ معي قول رسولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم . |
" إنَّكم سَتَلْقَوْنَ أثرَةً من بعدي "، وقلت: صَدَق رسول اللّهِ صلى الله عليه وسلم . |
فانْطَلَقَ رجلٌ إلى عمرَ واخْبَرَهُ بما قُلْتُ، فجاءني مُسْرِعاً وأنا أصَلِّي فقال: |
صَلّ يا أسَيْدُ: |
فلمَّا قَضَيْتُ صلاتي أقبلَ علَّي وقال: |
ماذا قلت؟ |
فأخبَرْتُه بِما رَأيتُ وَبِما قَلْتُ. |
فقال: |
عفا اللّهُ عَنْكَ، تِلْكَ حُلَّةٌ بَعَثْتُ بها إلى فلانٍ ، وهو أنصارِيّ عَقَبي بَدْرِيٌّ أحُدِيّ (39)، فشراها منه هذا الفَتَى القُرَشِيُّ وَلبِسَها. |
أفتَظُنُّ أن هذا الذي أخبرَ به رسولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يكونُ في زماني ؟!! |
فقال أسَيْدٌ : |
واللّه يا أميرَ المؤمنين لقد ظننتُ أنَّ ذلك لا يكَونُ في زمانِك. |
*** |
لم يَعِشْ أسيدُ بن الحضيرِ بَعْدَ ذلك طويلاً، فقد اختارَه اللّهُ إِلى جوارِه في عَهْدِ عمرَ رضى اللّهُ عنه وعَنْ عُمَرَ. |
فوُجِدَ أنَّ عليه دَيْناً مقدارهُ أربعةُ آلافِ دِرْهِمٍ، فَهَمَّ وَرَثَتُهُ بِبَيْع أرضٍ له لِوَفاءِ دُيونِه فلما عَرَفَ عمرُ ذلك قال: |
لا أتْرُكُ بني أخي أسَيْدٍ عالَةً على النَّاس.. |
ثمَّ كَلَّمَ الْغُرَماءَ (40) فَرَضُوا بأن يشتروا منه ثَمَرَ الأرضِ أربع سنين، كلُّ سنةٍ بألْف (*). |
|
(*) للاستزادة من أخبار أسيد بن الحضير انظر: |
1- البخاري ومسلم (باب فضائل الصحابة). |
2- جامع الأصول: 9/378. |
3- طبقات ابن سعد: 3/ 603. |
4- تهذيب التهذيب: 1/ 347. |
5- أسد الغابة: 1/ 92. |
6- حياة الصحابة: (انظر الفهارس في الجزء الرابع ). |
7- الأعلام ومراجعه. |
|
(1) يثرب: المدينة المنورة. |
(2) الخزرج: قبيلة عربية يمانية ارتحلت وأختها الأوس إلى الحجاز بعد خراب سَد مأرب واستوطنت المدينة. |
(3) يغريهم به: يولعهم به |
(4) رقة شمائله: رقة طباعه. |
(5) القسيم الوسيم: الجميل الحسن. |
(6) بين الفينة والفينة: بين الحين والحين. |
(7) ينفض المجلس: يتفرق المجلس. |
(8) الأوس: قبيلة يمانية ارتحلت هي وأختها "الخزرج" إلى المدينة واستقرت فيها. |
(9) لا أبا لك: كلمة ا تقال في الذم والمدح، والمراد بها هنا المدح. |
(10) ليغرى ضعفاءنا: ليخض ضعفاءنا على الإسلام ويزينه لهم. |
(11) ازجره:امنعه. |
(12) أحسن التأني له: أحسن عرض الأمر عليه. |
(13) اعتزلا هذا الحي: ابتعدا عنه. |
(14) إن كانت لكما بنفسيكما حاجة: كناية عن التهديد بالقتل. |
(15) المرموقين: الذين ينظر الناس إليهم إعجاباً بهم. |
(16) غفيرة: محيرة وفيرة. |
(17) مهاجراً لرسول اللّه: مكاناً لهجرته. |
(18) موئلا: ملاذاً وملجأ. |
(19) أولع بالقرآن: أحبه حباً شديداً وتعلَّق به. |
(20) يتحينون أوقات قراءته: يترقبون أوقات قراءته ويترصدونها. |
(21) المربد: فضاء وراء البيت. |
(22) ساجياً: ساكِناً. |
(23) تاقت نفسه: رغبت واشتاقت. |
(24) سورة البقرة: 1- 4. |
(25) جالت جَوْلة: دارَت دَوْرة. |
(26) سورة البقرة: 5. |
(27) أجفلت الفرس: نفرت. |
(28) ورد أصل هذا الحبر في البخاري ومسلم. |
(29) أتيح له: يُسِّرَ له ومُكِّنَ منه. |
(30) بملحه: بطرائِفِه ونكته. |
(31) غمزه بيده: طعنه بها. |
(32) ذوده عنه: دفاعه عنه. |
(33) مَحاويج: فقراء محتاجون. |
(34) أجزل: أكثر. |
(35) ما علمت: طول مدة معرفتي إياكم. |
(36) إنكم ستلقون أثرة بعدي: أي إنَّ الناس سيستأثرون بالخبر من دونكم. |
(37) انظر أصل الخبر في البخاري ومسلم. |
(38) حلة سابغة: حلة طويلة واسعة. |
(39) عقبي: نسبة إلى العقبة حيث بايع الأنصار الرسول صلى الله عليه وسلم تلك البيعةَ المشهورة، وبدري: نسبة إلى موقعة بدر، وأحدي: نسبة إلى موقعة أحد. |
(40) ا لغرماء: الدائنون. |
عبدُ الله بنُ مسعُود |
مَنْ سَرّهُ أَنْ يَقْرَأَ القُرْانَ رَطْبًا كَمَا نَزَلَ ، |
فَلْيَقْرَأ عَلَى قِرَاءَةِ اِبْنِ أُمِّ عَبْدٍ |
محمد رسول الله |
كان يومئذٍ غلاماً لم يجاوِزِ الحُلُمَ، وكان يَسْرَحُ في شِعابِ (1) مكَّةَ بعيداً عن النَّاسِ، ومعه غَنَمٌ يرعاها لِسَيِّدٍ من ساداتِ قريش هو عُقْبَةُ بنُ أبي مُعَيطٍ . |
كان الناسُ يُنادونَه: "ابنَ أمِّ عَبْدٍ" أمَّا اسمهُ فهو عبدُ اللّهِ وأمَّا اسمُ أبيه "فَمَسْعُود". |
كان الْغُلامُ يَسْمَعُ بِأخْبَارِ النبَّي الذي ظَهَرَ في قومِه فلا يأبَه لها (2) لِصِغَرِ سِنِّهِ من جِهَةٍ ، وَلِبُعْدِهِ عنِ المجتَمَع المكِّي من جهةٍ أخْرَ ى، فقد دأب على أنْ يخرجَ بغنم عُقْبَةَ مُنْذُ البُكورِ ثُمَّ لا يعودُ بها إِلاَّ إِذا أقْبَلَ اللَّيْلُ. |
وفي ذات يوم أبصَرَ الغلامُ المكي عبدُ اللّهِ بنُ مَسْعُودٍ كَهْلَيْنِ عليهما الْوَقَارُ يَتَّجهان نَحْوَه مِنْ بَعيدٍ ، وقد أخذَ الجُهْدُ مِنْهُما كُلَّ مَأخَذٍ (3)، واشتدَّ عليهما الظَّمَأ حَتَّى جَفَّتْ منهما الشفاهُ والحلوقُ. فلمّا وقفا عليه، سَلَّما وقالا: |
يا غلامُ، احْلِبْ لنا من هذِهِ الشِّياهِ ما نُطْفِئُ به ظَمَأنا ونَبُلُّ عُروقَنا. |
فقال الغلامُ: |
لا أفعَلُ، فالْغَنَمُ لَيْسَتْ لي، وأنا عليها مُؤتَمنٌ ... فلم يُنْكِرِ الرَّجُلانِ قَوْلَهُ، وبَدَا على وجهيهما الرِّضا عَنْهُ. |
ثم قال له أحَدُهُما: |
دُلَّني على شاةٍ لم ينْزُ عليها فَحْلٌ ، فأشارَ الغُلامُ إِلى شاةٍ صغيرَةٍ قريبَةٍ منه، فتقدَّمَ منها الرجلُ واعْتَقَلَهَا، وجعلَ يَمْسَح ضَرْعَهَا (4) بِيَدِه وهو يَذْكُرُ عليها اسمَ اللّهِ، فنظرَ إليه الغلامُ في دَهْشَةٍ وقال في نفسهِ: |
ومتى كانَتِ الشِّياهُ الصغيرةُ التي لم تَنْزُ عليها الفُحولُ تدرُّ لبناً؟! |
لكِنَّ ضرْعَ الشَاة ما لَبِثَ أن انْتَفَخَ، وطَفِق اللَّبنُ يَنْبَثِقُ منه ثَرّاً (5) غزيراً. |
فَأخَذَ الرَّجُلُ الآخَر حجراً مُجَوَّفاً من الأرْضِ، وملأه باللَّبنِ، وشرِبَ منه هو وصاحِبُه، ثم سقيَاني معهما، وأنا لا أكاد أصدقُ ما أرى. |
فلمَّا ارْتَوَيْنَا، قالَ الرّجُلُ المبارَكُ لِضَرْع الشَّاةِ: اِنْقَبِضْ، فما زال يَنْقَبِضُ حتَّى عادَ إلى ما كان عليه. |
عند ذلك قلتُ للرَّجُل المبارَكِ: |
عَلِّمْني مِن هذا القولِ الذي قلتَه. |
فقال لي: إنَّك غلام مُعَلَّم. |
*** |
كانت هذهِ بدايةَ قِصَّةِ عبدِ اللّهِ بنِ مسعودٍ مع الإسْلامِ... إذ لَمْ يَكُنْ الرَّجُلُ المبارَكُ إلاَّ رسولَ اللّهِ صلوات اللّه عليه، ولم يكن صاحبُه إلا الصديقَ رَضِىَ اللّهُ عنها. فقد نَفَرا (6) في ذلِكَ اليومِ إلى شِعابِ مَكَّةَ لِفَرْطِ ما أرهَقَتْهُمَا (7) قريشا وَلِشدَّةِ ما أنزَلتْ بهما من بَلاءٍ |
وكما أحَبَّ الغلامُ الرسولَ الكريمَ وصاحِبَهُ، وتَعَلَّقَ بهما فقد أعجب الرسولُ وصاحبُه بالغُلامِ و أكبَرَا أمَانَتَهُ وَحَزْمَهُ وَتَوَسَّمَا فيه الخيْرَ (8). |
لم يمضِ غيرُ قليل حتَّى أسلمَ عبدُ اللّهِ بنُ مسعودٍ وعَرَضَ نَفْسَهُ على رسولِ اللّهِ ليخدِمَه، فَوَضَعه الرسولُ صلوات اللّهِ عليه في خِدْمَتِهِ. |
ومُنْذُ ذلك اليومِ انْتَقَلَ الغلامُ المَحْظُوظُ عبدُ اللّهِ بنُ مسعودٍ من رعاية الغَنم إِلى خِدْمَةِ سَيِّدِ الخَلقَ والأممَ. |
*** |
لزمَ عبدُ اللّه بنُ مسعودِ رسولَ اللّهِ صلواتُ اللّهِ عليه مُلاَزَمَةَ الظِّلِّ لصاحبه، فكَان يُرافِقُه في حِلِّهِ وَتَرْحَالِهِ، ويصاحِبهُ داخِلَ بيتهِ وخارجَه... إذْ كان يوقِظُه إِذا نام، وَيَسْتُرُهُ إِذا اغْتَسَلَ، ويُلْبِسُهُ نَعْلَيْهِ إِذا أرادَ الخروجَ، ويَخْلَعُهُما من قَدَمَيْه إذا هَمَّ بالدخولِ، ويحمِلُ له عصاه وَسِوَاكَه، وَيَلجُ الحُجْرَةَ بَيْنَ يَدَيْه إذا أوى إِلى حُجْرَتِه… |
بلْ إنَّ الرسولَ عليه الصلاةُ والسَّلامُ أذِنَ له بالدُّخولِ عليه مَتى شاءَ، والوقوف على سِرّهِ من غيرِ تَحَرُّج وَلا تأثم، حتَّى دُعِيَ بِصَاحبِ سِرِّ رسولِ اللّهِ. |
*** |
رُبِّيَ عبدُ اللّهِ بنُ مسعودٍ في بيتِ رسولِ اللّهِ، فاهْتَدَى بِهَدْيِهِ وَتَخَلَّقَ بِشَمَائلهِ (9)، وَتَابَعهُ في كل خَصْلَةٍ من خِصالِه حتَّى قيل عنه: إنَّهُ أقربُ النَّاسِ إلى رسولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم هَدْياً وَسَمْتا (10) |
*** |
وَتَعَلَّمَ ابنُ مسعودٍ في مَدْرَسَةِ الرسول صَلواتُ اللّهِ عليه فكان من أقرَأ الصَّحابةِ للقرَآنِ، وأفقَهِهِمْ لمعانيه وأعلَمِهِمْ بِشرْعِ اللّهِ. |
ولا أدَلَّ على ذلك مِنْ حكاية ذلك الرَّجُلِ الذي أقْبَلَ على عُمَرَ بنِ الخطابِ وهو واقِف بِعَرَفَة، فقال له: |
جئتُ- يا أميرَ المؤمنين- من الكوفَةِ وَتَرَكْتُ بها رجلاً يُمْلي المَصَاحِفَ عن ظَهْرِ قَلْبِهِ، فَغَضِبَ عمرُ غَضَباً قَلَّما غَضِبَ مِثْلَهُ، وَانتَفَخَ حَتَّى كادَ يَمْلأ ما بينَ شُعْبَتَي الَّرحل (11) وقال: |
مَنْ هُوَ وَيْحَكَ (12)؟! |
قال: عبدُ اللّهِ بنُ مسعودٍ . |
فما زالَ يَنْطَفِئُ وَيُسَرَّى عَنْهُ حَتَّى عادَ إلى حالِه، ثم قال: وَيْحَكَ، واللّهِ ما أعْلَمُ أنهُ بَقِيَ أحَدٌ مِنَ النَاسِ أحَقُّ بهذا الأمْرِ منْهُ، وَسَأحَدِّثكَ عن ذلك. |
واستأنفَ عمرُ كلامَهُ فقال: |
كان رسولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْمُرُ ذاتَ ليلة عِنْدَ أبى بكرٍ ، ويتفاوَضانِ (13) في أمرِ المسلمين، وكُنْتُ معهما، ثُمَّ خَرَجَ رسولُ اللّهِ وَخَرَجْنا معه، فإذا رَجُلٌ قائِم يُصَلِّي بِالْمَسجِدِ لَمْ يَتَنبّهُ (14): فَوَقَفَ رسولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْتَمِعُ إليه، ثم الْتَفَتَ إلينا وقال: |
مَنْ سَرَّهُ أنْ يَقْرَأ الْقُرانَ رَطْباً كما نزَلَ فَلْيَقْرَأهُ على قِراءَةِ ابْنِ أمِّ عَبْدٍ ... |
ثُمَّ جَلَسَ عبدُ اللّهِ بنُ مسعودٍ يدْعو فَجَعَلَ الرسولُ عليه الصَّلاةُ والسلامُ يقولُ له: |
سَلْ تُعْطَهْ... |
سَلْ تُعْطَهْ... |
ثم أتْبَعَ عمرُ يقول: |
فَقُلْتُ في نفسي: واللّهِ لأغدُوَنَّ عَلَى عَبْدِ اللّهِ بنِ مسعودٍ وَلأبشِّرَنَّهُ بِتَأمِينِ الَّرسولِ صلى الله عليه وسلم على دُعائِه، فَغدَوْتُ عَلَيْهِ فَبَشَّرْتُه، فَوَجَدْتُ أبَا بَكْرٍ قَدْ سَبَقَني إلَيْه فَبَشَّرَه ... |
ولا واللّهِ ما سابَقْتُ أبا بَكْر إلى خَيْرٍ قَطُّ إلاَّ سَبَقَني إلَيْهِ. |
*** |
ولقد بَلَغ من عِلْمِ عبدِ اللّهِ بنِ مسعودٍ بكتابِ اللّهِ أنهُ كان يقولُ: واللّهِ الذي لا إلهَ غَيْرُه، ما نَزَلَتْ آيَة من كِتابِ الله إلاَّ وأنا أعلم أينَ نَزَلَتْ وأعلمُ فيما نَزَلَتْ، ولو أعْلَمُ أن أحَداً أعلَمُ مِنى بِكِتَابِ اللّهِ تَنَالُه الَمطِيُّ (15) لأتيْتُه. |
*** |
لم يَكُنْ عبدُ اللّهِ بنُ مسعودٍ مُبَالِغاً فيما قالَه عَنْ نفسِه، فهذا عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ رضىَ اللّهُ عنه يَلْقَى رَكْباً (16) في سَفَرٍ من أسْفَارِهِ، والليلُ مُخَيِّم يحجُبُ الرَّكْبَ بِظلامِهِ. |
وكان في الرَّكْبِ عبدُ اللّهِ بنُ مسعودٍ ، فَأمَرَ عُمَرُ رجلاً أن يُنَادِيَهُمْ: |
من أينَ القومُ؟ فأجابَه عبدُ اللّهِ: من الفجِّ العَمِيِق (17). |
فقال عمرُ: أينَ تريدونَ؟ فقال عَبْدُ اللّهِ: البيتَ العَتيقَ. |
فقال عمرُ: إنَّ فيهم عالماً... وأمرَ رجلاً فناداهُمْ: |
أيّ القرآنِ أعظمُ؟ فأجابه عبدُ اللّهِ: { اللّهُ لاَ إلهَ إلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأخُذُهُ سِنَة وَلاَ نَوْمٌ }. |
قال: |
نَادِهِمْ أيُّ الْقُرآنِ أحْكَمُ؟ |
فقال عبدُ اللّه: { إن اللّهَ يَأمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى }. |
فقال عمر: نادِهم أي القرَانِ أجمَعُ؟ |
فقال عبدُ اللّهِ: |
{ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَراً يَرَه }. |
فقال عمر: نادِهم أيُّ القرَآن أخوفُ؟ |
فقال عبدُ اللّهِ: |
{ لَيْسَ بِأمَانِيِّكُمْ وَلا أمَانيّ أهل الكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً }. |
فقال عمرُ: |
نادِهم أيُّ القرَان أرْجَى؟ |
فقال عبدُ اللّهِ: |
{ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أسْرَفُوا عَلَى أنفُسِهمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللّهِ إنَّ اللّه يَغْفِرُ الذُّنوبَ جَمِيعاً، إنَّهُ هُوَ الْغفُورُ الرَّجِمُ }. |
فقال عمرُ: |
نَادِهِمْ، أفيكُمْ عبدُ اللّهِ بنُ مسعودٍ ؟! |
قالوا: اللَّهُمَّ نعم. |
*** |
ولم يَكُنْ عبدُ اللّهِ بنُ مسعود قارئاً عالماً عابداً زاهِداً فَحَسْبُ وإنما كان- مع ذلك- قَوِيّاً حازماً مُجاهِداً مِقْداماً إذا جَدَّ الْجِدُّ. |
فَحَسْبُهُ أنَّهُ أوَّلُ مُسْلِم على ظَهْرِ الأرضِ جَهَرَ بالقرَآنِ بَعْدَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم : |
فقد اجْتَمعَ يوماً أصحابُ رسولِ اللّهِ في مكَّةَ ،- وكانوا قِلَّةً مُسْتَضْعَفينَ- |
فقالوا: |
واللّهِ ما سَمِعَتْ قريشٌ هذا القُرآن يُجْهَرُ لها به قَطّ، فَمَنْ رَجُلٌ يُسْمِعُهُم إيَاه؟! |
فقال عبدُ اللّهِ بنُ مسعودٍ : أنا أسمعهم إِيَّاه. |
فقالوا: |
إنَّا نَخْشَاهُم عليكَ، إنَّما نُرِيدُ رَجُلاً له عَشيرة، تَحْميه وَتَمْنَعُهُ منهم إِذا أرادوه بشَر، فقال: دَعُونِي فإنَّ اللّهَ سَيَمْنَعُني ويَحْميني... |
ثم غدا إلى الْمَسْجِدِ حَتَّى أتَى مَقامَ إِبْراهِيمَ في الضُّحَى وقريشٌ جلوسٌ حَوْل الكَعْبَةِ، فَوَقَفَ عِنْدَ المقام وقرأ: |
{ بِسمِ اللّهِ الرحمنَ الرحيمِ- رافِعاً بها صَوْتَهُ- الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرآنَ، خَلَقَ الانْسَانَ، عَلَّمَهُ الْبَيَانَ... }. |
وَمَضىَ يَقْرأها، فَتَأملَتْهُ قريشٌ وقالت: ماذا قال ابنُ أمِّ عَبْدٍ ؟! |
تَبّاً له (18)… إنَّهُ يَتْلو بَعْضَ ما جاءَ به محمدٌ … وقاموا إليه وجَعَلوا يَضْرِبُونَ وَجْهَهُ وهو يَقْرأ حَتَّى بَلَغ منها ما شاءَ اللّهُ أَنْ يبلُغ، ثم انْصَرَفَ إِلى أصحَابِه والدَّمُ يسيلُ منه، فقالوا له: |
هذا الذي خَشِينا عليك. |
فقال: |
واللّهِ ما كان أعداءُ اللّهِ أهوَنَ في عيني منهم الآنَ، وإنْ شِئْتُم لأُغَادينّهم(19)، بِمِثْلها غداً، قالوا: |
لا، حَسْبُكَ (20)، لقد أسْمَعْتَهم ما يَكْرَهون. |
*** |
عاشَ عبدُ اللّهِ بنُ مسعودٍ إلى زَمَنِ خِلافَةِ عُثمانَ رَضِيَ اللّهُ عنه، فلمّا مَرِضَ مَرَضَ الموتِ جاءَه عثمانُ عائِداً، فقال له: |
ما تشتَكي؟ |
قال: ذنوبي. |
قال: فما تشْتَهي؟ |
قال: رحمةَ ربى. |
قال: ألا آمُرُ لك بِعَطائِك الذي امْتَنَعْتَ عَنْ أخْذِهِ منذُ سنين؟! |
قال: لا حاجَةَ لي به. |
قال: يكون لِبَناتِكَ من بَعْدِك. |
قال: أتَخْشَى على بناتي الفقْرَ؟ |
إني أمرْتُهُنَّ أن يَقْرَأنَ كُلَّ لَيْلَةٍ سُورَةَ الْوَاقِعَة... |
وإنِّي سمعتُ رسولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يقول: |
"مَنْ قَرَا الْواقِعَةَ كُلَّ لَيْلَةٍ لَمْ تُصِبْهُ فَاقَة (21) أبداً". |
*** |
ولما أقبَلَ الليلُ لَحِقَ عبدُ اللّهِ بنُ مسعودٍ بالرفيقِ الأعلى ولِسَانهُ رَطْب بِذِكْرِ اللّهِ، نَدِيُّ بآياتِه الْبَيِّنات.(*) |
|
|
(*) للاستزادة من أخبار عبد الله بن مسعود انظر: |
ا- الإصابة (ط. السعادة): 4/ 129- 130. |
2- الاستيعاب (ط. حيدر آباد): 1/ 359- 362. |
3- أسد الغابة:3/256-260 7- شذرات الذهب ت1/38- 39. |
4- تذكرة الحفاظ: 1/12-15 8- تاريخ الإسلام الذهبي: 2/100- 154. |
5- البداية والنهاية: 7/ 162- 163 9- سير أعلام النبلاء: 1/331-357 |
6- طبقات الشعراني: 29- 30 0 1- صفة الصفوة: 1/154- 166. |
|
(1) شعاب: جمع شِعْب وهو الطريق في الجبل. |
(2) لا يأبه لها: لا يهتم بها. |
(3) أخذ الجهد منهما كلَّ مأخذ: أصابهما التعب الشديد. |
(8) توسما فيه الخير: تفرسا فيه الخير وترتباه منه. |
(9) تخلق بشمائله: تخلق بأخلاقه واتصف بصفاته. |
(10) السمت : الهيئة والخلق. |
(11) شعبتا الرحل: مقدمته ومؤخرته. |
(12) ويحك: ويلك. |
(13) يتفاوضان: يتذكران ويتحدثان. |
(14) لم نتبينه: لم نعرفه. |
(21) الفاقة: الفقر والحاجة. |
أبو عبيدة بن الجراح |
" لكل أمة أمين وأمين هذه الأمة أبو عبيدة " |
محمد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) |
|
كان وَضِيءَ الوجْهِ، بَهِيَّ الطَّلْعةِ، نَحِيلَ الجِسْمِ، طَويل اَلْقَامَةِ، خفيفة العارِضَيْن: تَرْتاحُ العينُ لمرآه، وَتَأنَسُ النَّفْسُ لِلُقْيَاهُ، ويطمئِنُّ إِليه الفؤادُ. |
وكان إِلى ذلك رقيقَ الحاشِيَةِ، جَمَّ التَّوَاضُع (1)، شديدَ الحياءِ، لكنَّه كان إِذا حَزَبَ الأمْرُ(2) وَجَدَّ الجِدُّ يَغْدُو كَأنهُ الَّليْثُ عادِياً. |
فهو يُشْبِه نَصْلَ السَّيْف رَوْنَقاً وَبَهاءً، وَيحْكِيه (3) حِدَّةً وَمَضَاءً. |
ذلِكُمْ هو أمينُ أمَّةِ مُحَمَّدٍ ، عامِرُ بنُ عبدِ اللّهِ بنِ الجَرَّاحِ الفِهريُّ القُرشيُّ، المُكَنَّى بأبي عُبَيْدَةَ. |
نَعَتَهُ عبدُ الله بنُ عمرَ رضىَ اللّه عنهما فقال: ثلاثة من قريش أصْبَحُ النَّاسِ وجوهاً، وَأحْسَنُها أخلاقاً، وَأثبَتُها حياءً إنْ حَدَّثُوكَ لَمْ يَكْذبوكَ (4)، وإنْ حَدَّثْتَهُمْ لَمْ يُكَذِّبُوك: أبو بَكْرٍ الصّديقُ، وَعُثْمانُ بن عَفَّانَ وَأبو عُبَيْدَةَ بنُ الجراح. |
*** |
كان أبو عُبيدَةَ من السَّابقين الأوَّلين إلى الإسلامِ، فقد أسلمَ في اليومِ التَّالي لإسْلامِ أبي بكرٍ ، وكان إِسلامُهُ على يَدي الصِّدِّيق نفسِه، فَمَضَى بهِ وَبِعَبْدِ الرحمنِ ابنِ عَوْف (5) وبعثمانَ بنِ مَظْعُونٍ وبالأرْقَمِ بنِ أبى الأرْقَمِ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأعْلَنوا بينَ يَدَيْه كلمةَ الحقِّ، فكانوا القواعِدَ الأولى التي أقيمَ عليها صَرْحُ الإسلامِ العظيم. |
*** |
عاش أبو عُبيدةَ تَجْرِبَةَ المسلمين القاسِيَةَ في مكَّةَ مُنْذُ بِدايتها إلى نِهايتها، وعانى مع المسلمين السَّابقين من عُنْفِها وَضَراوَتِها وَآلامِها وأحْزانِها ما لم يُعَانِهِ أتباع دين على ظَهْرِ الأرض، فَثَبَتَ للابْتِلاءِ (6)، وصَدَق اللّه ورسولَه في كل مَوْقِفٍ . لكِنَّ مِحْنَةَ أبِي عُبَيْدَةَ يَوْمَ بَدْرٍ فاقَت في عُنْفِها حِسبانَ الحاسِبين وتجاوَزَتْ خيالَ الُمتَخَيِّلين. |
*** |
اِنْطلقَ أبو عُبيدةَ يومَ بَدْرٍ يَصولُ بَيْنَ الصُّفُوفِ صَوْلَةَ مَنْ لا يهَابُ الرَّدى، فَهَابَهُ الُمشْركُونَ، ويجولُ جَوْلَةَ مَنْ لا يحذر الموتَ، فَحَذِرَهُ فُرسانُ قريش وجعلوا يَتَنَحّوْنَ عَنْهُ كُلَّما واجَهوه... |
لَكِنَّ رجلاً واحداً منهم جَعَلَ يبرُزُ لأبى عُبَيْدةَ في كلِّ اتِّجاهٍ ، فكان أبو عُبيدَة يَتَحَرَّفُ (7) عن طريقهِ وَيَتَحاشى لِقَاءه (8). |
ولجّ الرجُلُ في الهجومِ، وأكثَرَ أبو عُبيدَة من التنحي وسَدَّ الَّرجُلُ على أبي عُبيدَةَ المسالِكَ، وَوَقَفَ حافلاً بينَه وبينَ قِتالِ أعداءِ اللّهِ. فلمَّا ضاقَ به ذَرعاً (9) ضَرَبَ رأسَه بالسَّيْفِ ضَرْبَةً فَلَقَت هامَتَه فَلْقَتَيْن، فَخَرَّ الرجلُ صريعاً بينَ يَديه. |
لا تحاوِلْ- أيها القارِئُ الكريمُ- أن تُخَمِّنَ مَنْ يكونُ الرَّجُلُ الصريع .. |
أما قُلْتُ لك: إنَّ عُنْفَ التَّجْربَةِ فاقَ حِسبان الحاسِبين وجاوَزَ خيال الُمتَخَيِّلين؟ |
ولَقَدْ يَتَصدَّعُ رأسكَ إذا عَرفْتَ أن الرَّجُلَ الصَّريعَ هو عبدُ اللّه بنُ الجَرَّاح والد أبي عبيدَةَ. |
*** |
لم يقتل أبو عُبيدَةَ أباه، وإنما قَتَلَ الشِّرْكَ في شَخْصِ أبيه. |
فأنْزَلَ اللّهُ سبحانه في شأنِ أبى عُبَيْدةَ وشأنِ أبيه قرآناً فقال- عَلَتْ كَلِمَتُه-: { لا تجِدُ قَوْماً يؤمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخر يوادّون من حادَّ اللّه ورسوله ولو كانُوا آبَاءَهُمْ أوْ أبْنَاءَهُمْ، أوْ إخْوَانَهُمْ أوْ عَشِيرَتَهُمْ، أولئكَ كَتَبَ في قُلوبِهِمُ الإيمانَ وأيَّدَهُمْ بِرُوح مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِنْ تَحْتِها الأنْهَار خالِدِينَ فِيها رَضِىَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ، أولئكَ حِزْبُ اللّهِ ألا إن حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } (10). |
لم يَكُنْ ذلك عَجِيباً من أبى عُبَيْدَة، فَقَدْ بَلَغ من قُوَّةِ إيمانِه باللّهِ وَنُصْحِهِ لِدِينهِ، والأمانَةِ على أمَّةِ مُحَمَّدٍ مَبْلَغاً طَمَحَتْ إلَيْهِ نُفُوسٌ كَبيرَةٌ عِنْدَ اللّهِ. |
حَدَّثَ محمدُ بنُ جَعْفَر، قال: قَدِمَ وَفْدٌ من النَّصَارَى على رسولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا أبا القاسِمِ ابْعثْ مَعَنَا رجلاً من أصْحَابِكَ تَرْضَاهُ لَنَا لِيَحْكُمَ بَيْنَنَا في أشْياء من أمْوَالِنا اخْتَلَفْنَا فيها، فإنّكُمْ عِنْدنا مَعْشَر المسلمين مَرْضِيُّون. |
فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : ائتوني العَشِيَّةَ أبْعَثْ مَعَكُم القَوِيَّ الأمينَ، قال عمرُ بنُ الخطاب: فرحْتُ إلى صلاةِ الظهرِ مُبَكِّراً وَإنِّي ما أحْبَبْتُ الإمارَةَ حُبِّي إيَّاها يَوْمَئِذ رَجاءَ أن أكُونَ صَاحِبَ هذا النَّعتِ... |
فَلَمَّا صَلَّى بِنَا رسولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم الظُّهْر، جَعَلَ يَنْظُرُ عَنْ يَمِينه وَعَنْ يَسَارِه، فَجَعَلْتُ أتطَاولُ لَهُ لِيَرَانِي، فَلَمْ يَزَلْ يُقَلِّبُ بَصَرَهُ فينا حتَّى رَأى أبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الجَرَّاح، فَدَعَاهُ فقال: |
اخْرُجْ مَعَهُمْ فَاقْضِ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ فيما اختَلَفوا فيه فقلتُ: ذَهَبَ بِها أبو عُبَيْدَةَ. |
*** |
ولم يَكُنْ أبو عُبيدَة أميناً فَحَسْبُ، وِإنَّما كان يجمعُ الْقُوَّةَ إِلى الأمانةِ، وقَدْ بَرَزَتْ هذه الْقُوَّةُ في أكثَر من مَوْطَن: |
بَرَزَت يَوْمَ بَعَثَ الرسولُ جَماعَةً من أصْحابِهِ ليتَلقَّوْا عِيراً (11) لقريش، وَأمَّرَ عليهم أبا عُبيدَة رَضي اللّه عنهُمْ وعَنْه، وَزَوَّدَهُمْ جِرَاباً من تَمْر، لَمْ يَجِدْ لهم غَيْرَهُ، فكان أبو عُبيدَةَ يعطى الرَّجُلَ من أصْحَابهِ كُلَّ يَوْم تَمْرَةً، فَيَمَصُّها الَواحِدُ مِنْهُمْ؟ كما يَمَصُّ الصَّبِيُّ ضَرْعَ أمهِ، ثُمَّ يَشْرَبُ عليها ماءً، فكانت تكفيه يَوْمَهُ إِلى اللَّيْلِ. |
*** |
وفي يوم أحدٍ حينَ هُزِمَ المسلمون وَطَفِقَ صَائِحُ المشركين يُنادِي: |
دُلُّوني عَلى محمدٍ ... دُلُّوني على محمدٍ ... كان أبو عُبيدَة أحَدَ النَّفَرِ العَشَرَة الذين أحاطوا بالرسول صلى الله عليه وسلم لِيَذودوا عنه (12) بصُدورِهم رِماحَ المُشركِين. |
فلمَّا انْتَهتِ الْمَعْرَكَةُ كان الرسولُ صلى الله عليه وسلم قد كُسِرَتْ رَبَاعِيَتُه (13) وَشُجَّ جبينهُ وغارَت في وَجْنَتِهِ حَلْقَتَانِ من حَلَقِ دِرْعِهِ فَأقبَلُ عليه الصِّدِّيقُ يُرِيدُ انْتِزاعَهُما من وَجْنَتِه فقال له أبو عُبيدةَ: أقسِمُ عليك أنْ تَتْرُكَ ذلك لي، فَتَركَه، فَخَشيَ أبو عُبيدَة إنِ اقْتَلَعَهُما بيدِه أنْ يُؤلِمَ رسولَ اللّهِ، فَعَضَّ على أولاهما بِثَنِيَّيه (14) عَضاً قَوِياً مُحْكَماً فاسْتَخْرَجَها ووَقَعَتْ ثَنِيتهُ... ثُمَّ عَضَّ على الأخرى بِثَنِيَّتهِ الثانية فاقتلعها فسقطت ثنيَّته الثانية. |
قال أبو بكر: "فكان أبو عُبَيْدَةَ من أَّحْسَن النَّاسِ هَتَماً (15) " |
*** |
لقد شهِدَ أبو عُبيدَة معَ رسولِ اللّهِ صَلَواتُ اللّهِ عليه المشَاهِدَ كُلَّها مُنْذُ صحِبَهُ إلى أنْ وافاه اليقينُ (16) |
فَلَمَّا كان يوم السَّقِيفَة (17)، قال عمرُ بنُ الخَطَّابِ لأبي عُبيدَةَ: |
ابسُطْ يَدَكَ أبايِعْكَ، فإني سَمِعْتُ رسولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يقول: |
إنَّ لِكُلِّ أمةٍ أميناً، وَأنتَ أمينُ هذِهِ الأمَّةِ. فقال أبو عُبَيْدَةَ: |
ما كُنْتُ لأتقَدَّمَ بَيْنَ يَدَيْ رَجُل أمَرَهُ رسولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم أن يَؤمَّنَا في الصَّلاةِ فأمّنا حتّى ماتَ. |
ثم بويعَ بَعْدَ ذلك لأبى بكرٍ الصديقِ، فكان أبو عُبيدَةَ خيرَ نصيح له في الحَقّ، وأكرمَ مِعْوَانٍ له على الخَيْر. |
ثم عَهِدَ أبو بكرٍ بالخِلافَةِ مِنْ بَعْدِه إلى الفاروق فَدَانَ له أبو عُبيدَةَ بالطَّاعةِ، وَلَمْ يَعْصِهِ في أمْرٍ، إلاَّ مَرَّةً واحدةً. |
فَهَلْ تَدْرِي ما الأمرُ الذي عَصَى فيه أبو عُبيدَة أمرَ خليفةِ المسلمين؟! |
لقد وَقَعَ ذلك حينَ كان أبو عُبيدَة بنُ الجَرَّاح في بلادِ الشَّام يقودُ جيوشَ المسلمينْ من نَصْرٍ إلى نَصْرٍ حَتَّى فَتَحَ اللّهُ على يَدَيْه الدِّيار الشَّامِيَّةَ كُلّها… فَبَلَغ الفُراتَ شرقاً وَاسِيا الصُّغْرَى شَمالاً. |
عِنْدَ ذلك دَهَمَ بِلادَ الشَّامِ طاعون ما عَرَفَ النَّاسُ مِثْلَهُ قَطّ فَجَعَلَ يَحْصُدُ النَّاسَ حَصْداً... |
فما كان من عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ إِلاَّ أن وَجَّهَ رسولاً إِلى أبى عُبيدَةَ برسالةٍ يقول فيها: |
إِنِّي بَدَتْ (18) لي إليك حاجَةٌ لا غِنى لي عَنْكَ فيها، فإن أتاكَ كتابي ليلاً فَإِنِّي أعْزِم عليك (19) ألا تُصبِحَ حتى تركبَ إليَّ، وإن أتاك نهاراً فإنِّي أعْزِمُ عليك ألا تُمسي حَتَّى تَرْكَبَ إِليَّ. |
فلما أخَذَ أبو عُبيدَة كتابَ الفاروق قال: |
قد عَلِمْتُ حَاجَةَ أميرِ المؤمنين إِليَّ، فهو يريدُ أن يَسْتَبْقِىَ مَنْ ليْس بِباقٍ ، ثم كَتَبَ إليه يقول: |
يا أميرَ المؤمنين، إِنِّي قد عَرَفْتُ حَاجَتَكَ إِليَّ، إنِّي في جُنْدٍ من المسلمين ولا أجِدُ بِنَفْسِي رَغْبَةً عَنِ الذي يُصِيبهُمْ (20)... |
ولا أريدُ فِرَاقَهُمْ حَتّى يَقْضِي اللّهُ فيّ وفيهم أمرَه... |
فإذا أتاك كتابي هذا فَحَلِّلْنِي مِنْ عَزْمِكَ، وائذَنْ لي بالبَقاءِ. |
فلمَّا قرأ عمرُ الكتابَ بَكَى حَتَّى فاضَتْ عيناه، فقال له مَنْ عِنْدَهُ- لِشِدَّةِ ما رأوْه من بكائِه-: أماتَ أبو عُبيدَةَ يا أميرَ المؤمنين؟ فقال: لا، ولكِنَّ الموتَ منه قريب. |
ولم يَكْذِبْ ظَنُّ الفاروق، إذْ ما لبثَ أبو عُبيدَة أن أصيبَ بالطَّاعون، فلما حَضَرَتْهُ الوَفاةُ أوْصَى جُنْدَهُ فقال: |
إني موصيكم بِوَصيَّةٍ إنْ قَبِلْتُمُوها لَنْ تزالوا بخيرٍ : |
أقيموا الصَّلاةَ، وصوموا شَهْرَ رمضانَ، وَتَصَدَّقُوا، وَحُجُّوا واعْتَمِروا، وتواصَوْا، وانْصَحُوا لأمرائِكم ولا تَغُشوهُمْ ولا تُلْهِكُمُ الدُّنْيا، فإنَّ المرء لو عُمِّرَ ألْفَ حَوْل ما كان له بُد مِنْ أنْ يصيرَ إلى مَصْرَعي هذا الذي تَروْن... والسَّلامُ عليكم ورحمةُ اللّهِ. |
ثم الْتَفَتَ إلى معاذِ بنِ جَبَل (21) وقال: يا معاذُ، صَلِّ (22) بالنَّاسِ. |
ثم ما لَبِثَ أنْ فَاضَتْ رُوحُهُ الطَّاهِرةُ، فقام معاذ وقال: |
أيّها النَّاس: إِنَّكُمْ قَدْ فُجِعْتُمْ بِرَجُل- واللّهِ- ما أعْلَمُ أنِّى رَأيْتُ رَجلاً أبَرَّ صَدْراً، ولا أبْعَدَ غاِئلَةً (23) ولا أشدَّ حُبّاً لِلْعَاقِبَة ولا أنصَحَ لِلْعَامَّةِ منه، فترحَّموا عليه يَرْحَمْكُمُ اللّهُ (*). |
|
|
(*) للاستزادة من أخبار أبي عبيدة بن الجراح انظر: |
1- طبقات ابن سعد (انظر الفهارس). |
2- الإصابة الترجمة: 4400. |
3- الاستيعاب: 3/ 2 (طبقة السعادة). |
4- حلية الأولياء: 1/ 100. |
5- البدء والتاريخ: 5/87. |
6- ابن عساكر: 7/157. |
7- صفة الصفوة: 1/ 142. |
8- أشهر مشاهير الإسلام: 4، 5. |
9- تاريخ الخميس: 2/244. |
10- الرياض النضرة: 307. |
|
(1) جم التواضع: كثير التواضع. |
(2) حزب الأمر: اشتد الأمر. |
(3) يحكيه: يماثِلُه. |
(4) لم يَكْذِبوك: لم يكذبوا عليك. |
(5) انظر سرته ص 261. |
(6) ا لابتلاء: ا لاختبار. |
(7) يتحرف عن طريقه: يتنحى عن طريقه. |
(8) يتحاشى لقاء: يتجنب لقاعه ويتوقاه. |
(9) ضاق به ذرعاً: لم يستطع الصبر عليه. |
(10) سورة المجادلة: الآية رقم (22) |
(11) عيراً: قافِلةً. |
(12) ليذودوا عنه: ليدفعوا عنه. |
(13) الرباعية: السن إلى بين الثنية والناب. |
(14) الثنية: وجمعها ثنايا وهى أسنان مقدم الفم. |
(15) الأهتم: من انكسرت ثنيتاه. |
(16) وافاه اليقين: جاءه الموت. |
(17) يوم السقيفة: المراد به يوم بيعة أبي بكر رضى اللّه عنه، فقد تمت بيعته في سقيفة بني ساعدة. |
(18) بَدَت: ظَهَرَت. |
(19) أعزم عليك: أطلب منك بإلحاح وقوة، وأقسم عليك. |
(20) لا أجد بنفسي رغبة عن الذي يصيبهم: أي لا أرغب في أن اً حفظ نفسي مما يصيبهم. |
(21) انظر سيرته ص 529. |
(22) صَلِّ بالناس: كنْ إماماً لهم. |
(23) الغائلة: وجمعها الغوائل وهى الشر والحقد الباطن. |
أيّم العرب |
أم سلمة |
|
أمُّ سَلَمَةَ، وما أدْراكَ ما أمُّ سَلَمَةَ؟! |
أما أبوها فسيّدٌ من ساداتِ مَخْزوم المَرْموقين، وجوادٌ من أجْوَادِ العَرَبِ المَعْدودين؛ حتَّى إنه كان يقال له: "زادُ الراكِبِ "؛ لأنَّ الرُّكْبانَ كَانتْ لاتتَزَوَّدُ إذا قَصَدَتْ منازِلَه أو سارَتْ في صُحْبَتِهِ. |
وأمَّا زوجُها فعبدُ اللّهِ بنُ عبدِ الأسَدِ أحَدُ العَشَرةِ السابقين إلى الإسلامِ، إذْ لم يسلم قَبْلَه إلاَّ أبو بكرٍ الصديقُ ونفرٌ قليل لا يَبْلُغُ أصابعَ اليدين عدداً. |
وأمَّا اسمُها فهندُ؛ لكِنَّها كُنيتْ بأم سَلَمَةَ، ثم غَلَبَتْ عليها الكُنْيَةُ. |
*** |
أسلمت أمُّ سَلَمَةَ مع زَوْجها فكانتْ هي الأخْرَى من السابقاتِ إلى الإسلامِ أيضاً. |
وما إنْ شاعَ نبأ إسلامِ أم سلمةَ وزوجها حتَّى هاجَتْ قريش ومَاجَتْ، وجَعلتْ تَصُبُّ عليهما من نكَالها (1) ما يُزَلْزِلُ الصُّمَّ الصِّلابَ (2)، فلم يَضعُفا ولم يَهِنا ولم يَتَردَّدا. |
ولما اشتد عليهما الأذى وأذن الرسول صلوات الله عليه لأصحابه بالهجرة إلى الحبشة كانا في طليعة المهاجرين . |
*** |
مَضَتْ أمُّ سلمةَ وزوجُها إلى ديارِ الغُرْبَةِ وخلَّفَتْ ورءاها في مكَّةَ بيتَها الباذِخَ (3)، وعزَّها الشامِخَ، ونَسَبَها العريقَ، مُحْتَسِبَةً (4) ذلك كلَّه عندَ اللّهِ، مُسْتَقِلَّةً له في جَنْبِ مَرْضاتِه. |
وعلى الرَّغْمِ ممَّا لَقيَتْه أمُّ سَلَمَةَ وصحبُها مِنْ حِمايَةِ النجاشِيِّ نَضرَ اللّهُ في الجنةِ وَجْهَه، فقد كان الشَّوْقُ إلى مكَّةَ مهبطِ الوحْي، والحنينُ إلى رسولِ اللّهِ مَصْدر الُهدَى يَفْري كَبِدَها وكَبدَ زوجها فَرْياً. |
ثم تَتَابَعتِ الأخبارُ على المهاجرين إلى أرضِ الحَبَشَةِ بأنَّ المسلمين في مكَّةَ قد كَثُرَ عَدَدُهم، وأنَّ إسلامَ حَمْزَة بنِ عبدِ المطَّبِ، وعمرَ بنِ الخطَّابِ قد شَدَّ من أزْرهم (5)، وكَفَّ شيْئاً من أذَى قريش عنهم، فَعَزَمَ فريق منهم عَلى العَودَةِ إلى مَكَّةَ، يَحْدوهم الشوقُ (6)، ويدعوهم الحنينُ.. |
فكانت أمُّ سلمةَ وزوجُها في طليعةِ العائدين |
*** |
لكِنْ سَرْعانَ ما اكْتَشَفَ العائدون أنَّ ما نُمِيَ إليهم من أخبارٍ كان مُبالغاً فيه، وأنَّ الوَثْبَةَ التي وَثَبَها المسلمون بَعْدَ إسلامِ حمزةَ وعمرَ، قد قوبِلَتْ مِنْ قريش بِهَجْمَةٍ أكبرَ. |
فَافْتَنَّ المُشْرِكونَ في تعْذيبِ المسلمين وتَرْويعهم، وأذاقوهُم مِنْ بَأسِهم ما لا عَهد لهم بِهِ مِنْ قَبلُ. |
عند ذلك أذِنَ الرسولُ صلواتُ اللّهِ عليه لأصحابِهِ بالِهجْرَةِ إلى المدينةِ، فَعَزَمَتْ أمُّ سلمةَ وزوجُها على أن يكونا أوَّلَ المهاجرين فِراراً بدينهما وتَخَلُّصاً من أذَى قريش. لكِنَّ هِجْرَةَ أمِّ سَلَمَةَ وزوجِها لم تكن سَهْلَةً مُيَسَّرَةً كما خُيِّل لهما، وإنَّما كانت شَاقَّةً مُرَّةً خَلَّفَتْ وراءَها مأساةً تهون دونَها كلُّ مَأساةٍ. |
فَلْنَتْركِ الكلامَ لأمِّ سلمةَ لِتَرْوِيَ لنا قِصَّةَ مأساتها... |
فشعورُها بها أشدُّ وأعْمَقُ، وتَصْويرُها لها أدَقّ وأبلَغُ. |
قالت أمُّ سلمةَ: |
لما عَزَمَ أبو سلَمَةَ على الخروج إلى المدينة أعَدَّ لي بعيراً، ثمَّ حَمَلَني عليه، وجعلَ طِفْلَنا سَلَمَةَ في حِجْري، ومضَى يقودُ بِنا البعيرَ وهو لا يَلْوي على شيء (7). وقبلَ أن نَفْصِلَ (8) عَنْ مَكَّةَ رآنا رِجالٌ مِنْ قَوْمي بني مخزوم فَتَصَدَّوْا لنا، وقالوا لأبى سَلَمَةَ: |
إن كنتَ قد غَلبْتَنا على نَفسِك، فما بالُ امْرَأتِكَ هذه؟! |
وهي بِنْتُنا، فعلامَ نَتْرُكُكَ تأخُذُها مِنَّا وتسيرُ بها في البلادِ؟! |
ثم وَثَبوا عليه، وانْتَزَعوني منه انْتِزاعاً. |
وما إن رآهم قومُ زوجي بنو عَبْدِ الأسَدِ يأخذونَني أنا وطِفْلي، حَتَّى غَضِبوا أشَدَّ الغَضَبِ، وقالوا: |
لا واللّهِ لا تتْرُكُ الوَلَدَ عِنْدَ صاحِبَتِكم بعد أن انْتزعتُمُوها من صاحِبِنا انْتِزاعاً.. |
فهو ابْنُنا ونحن أولى به. |
ثم طَفِقُوا يتجاذَبون طِفْلي سلمةَ بيْنَهم عَلَى مَشْهَدٍ منِّى حتَّى خَلَعوا يَدَهُ وأخَذوه. |
وفي لَحَظَاتٍ وَجَدْتُ نَفْسِي مُمَزَّقَةَ الشَّمْل وحيدةً فريدةً: |
فزوجي اتَّجه إلى المدينةِ فِراراً بدينه ونَفْسِه... وولدي اخْتَطَفَه بنو عبدِ الأسَدِ من بينِ يَدَيَّ مُحَطَّماً مَهيضاً (9).. |
أما أنا فقد اسْتَوْلَى علَّي قَوْمي بنو مخزوم، وجعلوني عِنْدَهم... |
ففُرِّقَ بَيْني وبينَ زَوْجي وَبَيْنَ ابني في ساعةٍ . |
ومُنذ ذلك اليومِ جَعَلْتُ أخرُجُ كُلَّ غَداةٍ إلى الأبطَحِ، فأجْلِسُ في المكانِ الذي شَهِدَ مأساتي، وأستعيدُ صورةَ اللَّحظاتِ التي حِيلَ فيها بيني وبينَ ولدي وزَوْجِي، وأظَلُّ أبكي حتَّى يُخيّمَ عليَّ الليلَ. |
وبقيتُ على ذلك سنةً أو قريباً مِنْ سنةٍ إلى أنْ مَرَّ بي رَجُل من بني عَمِّي، فَرَقَّ لحالي ورَحِمَني وقال لِبني قومي: |
ألا تُطْلِقون هذه المسكينةَ!! فَرَّقْتُم بينَها وبينَ زَوْجِها وبينَ ولدِها. |
وما زالَ بهم يَسْتَلينُ قلوبَهم ويَسْتَدِرُّ عَطْفَهم حتَّى قالوا لي: |
اِلحقي بزوجِك إن شِئْتِ. |
ولكِنْ كيفَ لي أن ألْحَقَ بِزَوجي في المدينةِ وأترُكَ ولدي وفِلْذَةَ (10) كَبِدي في مكَّةَ عنْدَ بني عبدِ الأسدِ؟! |
كيف يمكنُ أن تَهْدَأ لي لوعَة أو تَرْقأ لعيني عَبْرَةٌ (11) وأنا في دارِ الِهجْرَةِ وولدي الصغيرُ في مكَّةَ لا أعرِف عنه شيئاً؟!!! |
ورَأى بعضُ الناسِ ما أعالج (12) مِنْ أحْزاني وأشْجاني فرقَّت قلوبُهم لحالي، وكلَّموا بني عبدِ الأسَدِ في شَأني (13) واسْتَعْطفوهم علىَّ فَرَدُّوا لي وَلَدي سَلَمَةَ. |
*** |
لم أشأ أنْ أترَيَّثَ في مَكَّةَ حتَّى أجِدَ مَنْ أسافِرُ مَعَه ؛ فقد كنت أخشى أنْ يَحْدُثَ ما ليس بالحِسْبَان فَيعوقَني عَنِ اللَّحاقِ بِزَوجي عائِقٌ … |
لذلك بادرتُ فأعْدَدْتُ بَعيري، ووضَعْتُ ولدي في حِجْري، وخَرَجْتُ مُتَوَجِّهَةً نحوَ المدينةِ أريدُ زَوْجي، وما مَعي أحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللّهِ. |
وما إن بَلَغْتُ "التنعيم" (14) حتَّى لقيتُ عُثْمانَ بنَ طلحةَ (15) فقال: |
إلى أين يا بِنْتَ زادِ الراكِبِ؟! |
فقلت: أريدُ زَوْجي في المدينةِ. |
قال: أوَما مَعَكِ أحدٌ ؟! |
قلت: لا واللّهِ إلا اللّهَ ثم بُنَيِّ هذا. |
قال: واللّهِ لا أترُكُكِ أبداً حتَّى تَبْلُغي المدينة. ثم أخَذَ بِخطام (16) بعيري وانْطَلَقَ يَهْوي بي.. |
فواللّهِ ما صَحِبْتُ رجلاً من العَرَبِ قَطُّ أكْرمَ مِنْه ولا أشْرَفَ: كان إذا بَلَغ منزلاً من المنازِلِ يُنيخُ بعيري، ثم يَسْتَأخرُ عنِّي، حتَّى إذا نَزَلْتُ عن ظهْرِه واسْتَوَيْتُ على الأرضِ دنا إليه وحَطَّ عَنْه رَحْلَه، واقْتَادَه إلى شَجَرَةٍ وقيَّده فيها... |
ثم يَتَنَحَّى عَنِّى إلى شَجَرَةٍ أخْرَى فيَضْطَجعُ في ظلِّها. |
فإذا حانَ الرَّواحُ قامَ إلى بعيري فأعَدَّه، وقدَّمه إليَّ، ثم يَسْتَأخِرُ عَنِّى ويقول: ارِكَبي، فإذا رَكِبْتُ، واسْتَوَيْتُ على البعيرِ، أتى فأخذَ بِخِطامِه وقادَه. |
*** |
وما زال يصْنَعُ بي مثلَ ذلك كلَّ يوم حتَّى بَلَغْنا المدينةَ، فلمَّا نَظَرَ إلى قريةٍ بقُبَاء (17) لبني عمرو بن عوِف قال: زوجُك في هذه القريةِ، فادْخُليها على بَرَكةِ اللّهِ، ثم انصَرَف راجعاً إلى مكَّةَ. |
*** |
اجتَمَع الشَّمْلُ الشتيتُ (18) بعدَ طولِ افْتِراقٍ ، وقرَّتْ عَيْنُ أمِّ سلمةَ بِزَوْجِها، وسَعِدَ أبو سلمةَ بصاحِبَتِهِ وولَدِه… ثم طَفِقَتِ الأحداثُ تَمْضى سِراعاً كَلَمْح البَصرِ. |
فهذه بَدْرٌ يَشْهَدُها أبو سلمةَ ويعودُ منها مَعَ المسلمين، وقد انْتَصروا نَصراً مُؤزَراً (19). |
وهذه أُحد، يخوضُ غِمَارَها بَعْدَ بَدْرٍ ، ويُبلي فيها أحسنَ البلاءِ وأكْرَمَه، لكنَّه يخرجُ منها وقد جُرِحَ جُرْحاً بليغاً، فما زال يعالِجُه حتَّى بدا له أنّه قد انْدَمَلَ (20)، لكِنَّ الجُرحَ كان قد رُمَّ عَلى فسادٍ (21) فما لَبِثَ أن انْتَكَأ (22) وألْزَمَ أبا سَلَمَةَ الفِراشَ. |
وفيما كان أبو سلمة يُعالَج من جُرْحِه قال لزوجه: يا أمَّ سَلَمَةَ، سمعت رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم يقول: |
"لا يصيبُ أحداً مصيبة، فَيَسْتَرْجعُ (23) عِنْدَ ذلك ويقول: |
اللَّهُمَّ عندَكَ احْتَسَبْتُ مصيبتي هذه. |
اللَّهُمَّ اخْلُفني خَيْراً مِنها إلا أعطاهُ اللّه عزَّ وجلَّ ...." |
*** |
ظَلَّ أبو سلمةَ على فِراشِ مَرَضِهِ أياماً. وفي ذاتِ صباح جاءَه رسولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم ليَعودَه، فلم يَكَدْ ينتهي من زيارتِه ويجاوزُ بابَ داره، حتَّى فارقَ أبو سلمةَ الحياةَ. |
فأغْمَضَ النبيُّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بِيَديه الشريفتين عَيْني صاحبه. |
ورَفَعَ طَرْفَه إلى السماءِ وقال: |
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لأبي سَلَمَةَ، وارْفَعْ دَرَجَتَه في المقرَّبين. |
واخلُفْه في عَقِبهِ (24) في الغابرين. |
واغْفِرْ لنا وله يا ربَّ العالمين. وافسَحْ له في قَبْرِه، ونوِّرْ له فيه. |
أما أمُّ سلمةَ فَتَذكَّرَتْ ما رَواهُ لها أبو سَلَمَةَ عَنْ رسولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فقالت: |
اللَّهُمَّ عِنْدَكَ أحْتَسِبُ مصيبتي هذه... |
لكِنَّها لم تَطِبْ نفسُها أنْ تقولَ: اللَّهُمَّ اخْلُفني (25) فيها خيراً منها؟ لأنَّها كانت تتساءل، ومن عَساهُ أن يكونَ خيراً من أبي سَلَمَة؟! |
لكنَّها ما لَبِثَتْ أن أتمّتِ الدعاءَ… |
*** |
حزن المسلمون لِمصابِ أمِّ سلمةَ؟ لم يَحْزنوا لِمُصابِ أحَدٍ من قَبْلُ، وأطلقوا عليها اسم "أيّم (26) العرب "…. |
إذْ لم يَكُنْ لها في المدينةِ أحدٌ من ذويها غيرَ صِبيَةٍ صغارٍ كزغبِ القطا (27). |
*** |
شَعَرَ المهاجرون والأنْصَارُ معاً بِحَقِّ أمِّ سلمةَ عليهم، فما كادَتْ تَنْتَهي من حِدَادِها على أبى سلمةَ حتَّى تقدَّم منها أبو بكر الصديقُ يخطُبها لِنَفْسِهِ فأبَتْ أن تَسْتَجيبَ لِطَلَبِه.. |
ثم تقدَّم منها عمرُ بنُ الخطَّاب فردَّته كما ردَّت صاحِبَه... |
ثم تَقَدَّم منها رسولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فقالت له: |
يا رسولَ اللّهِ، إنَّ فيَّ خِلالاً (28) ثلاثاً: فأنا امرأةٌ شديدةُ الغَيْرَة فأخافُ أن تَرَى مِنِّى شَيئاً يُغْضِبُكَ فَيُعَذِّبني اللّهُ به. |
وأنا امرأة قد دَخَلْتُ في السنِّ (29). |
وأنا امرَأة ذاتُ عِيال. |
فقال عليه الصلاة والسَّلام: |
أمَّا ما ذَكَرْتِ من غَيْرَتكِ فإني أدعو اللّهَ عَزَّ وجَلَّ أن يُذْهِبَها عنك. |
وأمَّا ما ذَكَرْتِ من السنِّ فقد أصابني مثلُ الذي أصابَك. وأمَّا ما ذَكَرْتِ من العيالِ، فإنَّما عيالُكِ عيالي. |
ثم تزوّج رسولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم من أمِّ سلمة فاستجاب اللّه دعاءَها، وأخْلَفَها خيراً من أبى سَلَمَةَ. |
ومنذ ذلك اليومِ لَمْ تَبْقَ هِنْدُ المَخْزُوميَّةُ أمّاً لِسَلَمَةَ وحدَه؟ وإنما غَدَتْ أمّاً لجميع المؤمنين. |
نَضرَ اللّهُ وَجْهَ أم سلمة في الجنَّةِ ورَضِىَ عنها وأرضاها (*) |
(*) للاستزادة من أخبار أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها انظر: |
1- الإصابة (طبعة السعادة) 240- 242. |
2- الاستيعاب (طبعة حيدر آباد) 2/ 780. |
3- أسد الغابة: 5/588- 589. |
4- تهذيب التهذيب : 12/455 - 465 . |
5- تقريب التهذيب : 2/627 . |
6- صفة الصفوة : 2/20-21 . |
7-شذرات الذهب : 1/69-70 . |
8-تاريخ الإسلام للذهبي : 3/97-98 . |
9-البداية والنهاية : 8/214-215 . |
10-الأعلام ومراجعه : 9/104 . |
(3) الباذخ: العالي، الرفيع. |
(4) محتسبة: طالبة الجزاء من الله. |
(5) شد أزرهم: قوَّاهم. |
(6) يحدوهم الشوق: يسوقهم الشوقُ. |
(9) مهيضاً: ممزَّقاً مكسَّراً. |
(10) فلذة كبدي: قطعة كبدي. |
(11) ترقأ لعيني عبرة: تجف لعيني دمعة. |
(12) أعالج: أعاني. |
(13) في شأني: في أمري. |
(14) التنعيم: مكان على ثلاثة أميال من مكة. |
(15) عثمان بن طلحة: كان حاجب بيت الله في الجاهلية، أسلم مع خالد بن الوليد وشهد فتح مكة فدفع إليه الرسول عليه السلام مفتاح الكعبة وكان يوم رافقَ أم سلمة مشركاً. |
(16) الحِطام: حَبْل يجعل في عنق البعير ليقاد به. |
(17) قُباء: قرية في ضواحي المدينة تبعد عنها ميلين. |
(18) ا لشَّتيت: ا لمُفرَّق. |
(19) مؤزراً: قوياً مبيناً. |
(20) اندمل: تماثل للشفاء. |
(21) رم الجرح على فساد: يعني صلح في الظاهر وهو فاسد في الحقيقة. |
(22) انتكأ: انفتح. |
(23) يسترجع: يقول إثا للّهِ وإنَّا إليه راجعون. |